في الساعات الماضية، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو صادم يوثق محاولة سرقة هاتف محمول في وضح النهار، انتهت بالفشل، لكن الكارثة لم تكن في الجريمة نفسها، بل في رد فعل المارة. فبدلًا من التدخل للقبض على اللص أو حماية الضحية، وقف بعض الحاضرين لمساعدته على الهرب، بعد أن أشهر سلاحًا أبيض مهددًا به كل من يقترب. المشهد، الذي كان يومًا ليُقابل بالرفض الشعبي المطلق، صار الآن مثار جدل واسع، إذ يراه كثيرون انعكاسًا خطيرًا لتآكل الشهامة والمروءة التي طالما عُرف بها وذلك منذ وصول عبدالفتاح السيسي لحكم مصر.
 

ردود فعل غاضبة
فعلق الدكتور مراد علي " أغرب ما في فيديو محاولة سرقة الهاتف، السلبية الشديدة للمواطنين .. لم يحاول أيٌ منهم القبض على الحرامي، بل وقفوا يتفرجوا عليه. كيف ومتى ترسّخت هذا الجبن السلبية الشديدة في المصري ، الذي كان يعرف بجدعنته."
https://x.com/mouradaly/status/1956315186404495441

وكتب حزب تكنو قراط مصر " محاولة سرقة هاتف فاشلة والكارثة تكمن فى وقوف المارة لمساعدة الحرامى فى الهرب بعد أشهاره سلاح ابيض ماذا حدث للشعب المصرى #اضراب_عام_من_اجل_غزة_٢١_اغسطس #لازم_يمشي #تكنوقراط_مصر".
https://x.com/egy_technocrats/status/1956296845296120156

وسخر أكرم " أكثر شيء مضحك شفتو من مدة طويلة ڤيديو للص في مصر حاول سرقة هاتف أحد المارة من أذنه وعندما اوقفه الضحية واستعاد هاتفه قبل أن يهدده بسيف كبير ليرحل.. من تجمعوا ومن المفروض ان يساعدوا الضحية ويتصلوا بالشرطة ويحتجزونه لغاية وصولها، قاموا بمساعدته على إعادة تشغيل الدراجة والهرب".
https://x.com/milonario37/status/1956167323590778993

كما سخر ابن زاهر " أول ما طلع الكازلاك الناس نسيت انه حرامي و بدأوا يتطمنوا على المكنة و يصلحوهاله".
https://x.com/ibn_zahr/status/1956333831985717456

وقال علي عبدالتواب " مش شايف رجاله في الفيديو".
https://x.com/lybdltwb181543/status/1956315242847158587

وأضاف اسماعيل حسني " ياما هنشوف من الجوع وقلة الشغل والمخدرات".
https://x.com/IsmailHosny1/status/1956335504762294507
 

من شهامة الأسلاف إلى لا مبالاة الأجيال الحالية
قبل عقد واحد من الزمان، كانت مثل هذه الحوادث تُقابل بمطاردات جماعية من الأهالي، حتى يسلّم الجاني نفسه للشرطة أو ينال عقابه في الحال.
كانت القيم الاجتماعية أقوى من الخوف، وكانت "الشهامة" المصرية أشبه بميثاق غير مكتوب يفرض على كل شاهد جريمة أن يتدخل لإنقاذ المظلوم.
لكن اليوم، يبدو أن هذه القيم تتآكل بشكل مقلق، ليحل محلها الخوف، أو اللامبالاة، أو حتى—كما في حالة الفيديو الأخير—التواطؤ مع الجاني.
 

السيسي وعصر الخوف العام
منذ انقلاب عبد الفتاح السيسي في 2013، يعيش المجتمع المصري تحت قبضة أمنية غير مسبوقة، حيث صار الخوف هو القاعدة الأساسية التي تحكم سلوك الأفراد.
هذا الخوف لم يقتصر على السياسة أو حرية التعبير، بل امتد ليشكل العقلية العامة، حتى في المواقف اليومية.
المواطن الذي يرى الظلم أو الجريمة، يفكر أولًا في تجنب أي احتكاك بالسلطات أو المشكلات القانونية، فيختار الانسحاب أو الصمت، مهما كانت فداحة ما يراه.

تآكل الشهامة هنا ليس صدفة، بل نتيجة بيئة كاملة من القمع، حيث تم كسر إرادة الناس وإقناعهم بأن "السلامة في البعد".
 

الأزمات الاقتصادية وتأثيرها على القيم
إلى جانب القمع السياسي، جاءت الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب البلاد منذ سنوات، مع التضخم الجنوني وارتفاع الأسعار، لتدفع شرائح واسعة من المصريين إلى التركيز على النجاة الفردية بدل التضامن الجماعي.
عندما يصبح همّ المواطن اليومي هو توفير لقمة العيش وسداد الديون، تتراجع الأولويات الأخلاقية إلى الخلف، ويتحول الناس إلى جزر معزولة، كلٌ يبحث عن خلاصه الشخصي.
كما أن انتشار الفقر والبطالة أسهما في زيادة معدلات الجريمة، وظهور أنماط جديدة من الإجرام أكثر جرأة، بما فيها جرائم السطو العلني في الشوارع المزدحمة.
 

الشرطة التي تحولت إلى أداة سلطة لا أداة أمن
جزء من أزمة انعدام رد الفعل الشعبي على الجرائم هو فقدان الثقة في الشرطة.
فالكثير من المواطنين يرون أن دور أجهزة الأمن لم يعد حماية الناس، بل حماية النظام وقمع المعارضة.
هذه القناعة تجعل الناس أقل استعدادًا للتدخل، لأنهم لا يتوقعون أن يجدوا دعمًا من رجال الأمن إذا تورطوا في مواجهة مع مجرم.
وفي بعض الحالات، يخشى الشهود أن يتم اتهامهم زورًا أو إقحامهم في قضايا معقدة، فيفضلون ترك المجرم يهرب بدلًا من التدخل.
 

الإعلام الرسمي وتطبيع الانحراف
الإعلام الموالي للنظام لعب دورًا كبيرًا في هذا الانحدار، ليس فقط عبر تجاهل قضايا الفساد الأخلاقي والاجتماعي، بل أحيانًا عبر تقديم المجرمين أو المنحرفين في الدراما كأبطال شعبيين.
هذا الخطاب، الذي يغلف الانحراف بالدهاء أو القوة، ساهم في إعادة تشكيل وعي الأجيال الجديدة، وجعل بعضهم يرى في اللصوص "شطارًا" أو "أذكياء" بدل أن يراهم تهديدًا للمجتمع.
 

من رد الفعل الشعبي إلى حالة اللامبالاة
الفيديو الأخير كشف أن بعض المارة لم يكتفوا بالصمت، بل ساعدوا المجرم في الهرب، ربما بدافع الخوف من سلاحه، وربما لغياب الإحساس بالمسؤولية الجماعية.
في كلتا الحالتين، نحن أمام واقع جديد، حيث أصبح التواطؤ مع الجريمة ممكنًا، بل ومفهومًا لدى البعض، في غياب أي بيئة تشجع على التدخل لصالح المظلوم.
 

الشهامة ليست تراثًا أبديا
الشهامة المصرية التي يحنّ إليها الجميع لم تكن سلوكًا فطريًا أبديًا، بل كانت نتاج منظومة اجتماعية قوية تقوم على روابط الحي والعائلة، ووجود حد أدنى من العدالة، وشعور الناس بأنهم جزء من مصير واحد.
هذه المنظومة تعرضت للتفكيك الممنهج منذ سنوات، عبر سياسات الإفقار، وتقييد الحريات، وتهميش المجتمع المدني.
النتيجة أن المواطن فقد إحساسه بأن التدخل لحماية الآخر هو واجب عليه، وتحول إلى مراقب سلبي.
 

خطورة ما بعد الحادثة
إذا أصبح مشهد مثل الفيديو الأخير أمرًا عاديًا، فإننا أمام تحوّل أخطر بكثير من مجرد حادث سرقة.
نحن أمام إعادة تشكيل لقيم المجتمع، بحيث يتكيف الناس مع الجريمة ويقبلونها كجزء من الحياة اليومية.
وهذا أخطر على المدى الطويل من الجريمة نفسها، لأن المجتمع الذي يفقد مناعته الأخلاقية يصبح أكثر عرضة للتفكك والانهيار.
 

استعادة الشهامة المفقودة
استعادة ما فقدناه من قيم الشهامة والجدعنة يتطلب أكثر من مجرد دعوات أخلاقية.
الأمر يحتاج إلى إصلاح سياسي يعيد للمواطن إحساسه بالأمان والقدرة على الفعل، وإلى إصلاح اقتصادي يخفف من الضغوط المعيشية، وإلى إعلام يعيد الاعتبار للقيم الإيجابية بدل تلميع الانحراف.
لكن في ظل استمرار حكم عبد الفتاح السيسي، وسياساته التي تقوم على القمع والتهميش والإفقار، فإن هذا الطريق يبدو مسدودًا، ما لم تتغير الظروف التي صنعت هذا الانحدار.
 

جريمة في الشارع وجرائم في الدولة
حادثة محاولة السرقة الفاشلة، ورد فعل المارة عليها، ليست إلا عرضًا من أعراض مرض أعمق بكثير.
جريمة الشارع لا تنفصل عن جريمة الدولة بحق مواطنيها، حين تُقتل القيم في النفوس، ويُربّى الناس على الخوف واللامبالاة.
في النهاية، من المستحيل أن تُبنى شهامة حقيقية في ظل نظام يحارب التضامن، ويعاقب من يرفع صوته في وجه الظلم، سواء أتى هذا الظلم من لص في الشارع أو من كرسي الحكم في القصر.