في مشهد لافت يعكس حجم الأزمة التي تعيشها إسرائيل، خرجت حشود من آلاف المتظاهرين في مدن مختلفة، يتقدمهم أهالي الأسرى والمفقودين، مطالبين الحكومة بالإسراع في إبرام صفقة تبادل مع المقاومة الفلسطينية.
الهتافات والشعارات لم تقتصر على المطالبة بعودة الأبناء، بل امتدت إلى تحميل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المسؤولية المباشرة عن استمرار معاناتهم وعن إطالة أمد الحرب، التي لم تحقق نتائج ملموسة على الأرض.
هذه المظاهرات، التي باتت شبه أسبوعية، تكشف عن شرخ داخلي في المجتمع الإسرائيلي بين خطاب الحكومة المتشدد ورغبة الشارع في حل واقعي يضمن عودة الأسرى مهما كان الثمن السياسي.
عائلات تبحث عن الأمل
الأسرى والمفقودون يمثلون جرحًا مفتوحًا في المجتمع الإسرائيلي.
هؤلاء الأهالي يشعرون أن أبناءهم مجرد أوراق سياسية بيد نتنياهو، تُستعمل لتعزيز مواقفه أو تأجيل أزماته.
كثير من العائلات تحدثت للإعلام بصراحة، متهمة الحكومة بإدارة الملف ببرود، وأنه لولا الضغط الجماهيري لما تحرك المسؤولون.
هنا تكمن دلالة مهمة: الاحتجاجات لم تعد مجرد تضامن رمزي، بل تحولت إلى صرخة جماعية من داخل المجتمع الإسرائيلي، تؤكد أن استمرار الحرب لا يحل مأساة الأسرى، وأن الحل الوحيد يمر عبر التفاوض المباشر مع المقاومة وإبرام صفقة تبادل.
مواجهة مفتوحة مع نتنياهو
لا يمكن فصل هذه الاحتجاجات عن السياق السياسي المحتدم داخل إسرائيل. حكومة نتنياهو تعيش واحدة من أكثر لحظاتها ضعفًا، في ظل تآكل الثقة الشعبية وتنامي الانتقادات الداخلية.
المعارضة، بقيادة شخصيات سياسية بارزة، استغلت هذه الموجة لتوجيه ضربات متتالية إلى نتنياهو، متهمة إياه بأنه يفضل البقاء في السلطة على حساب حياة الأسرى.
الاحتجاجات إذن لم تعد فقط مطلبًا إنسانيًا، بل أداة ضغط سياسي تهدد مستقبل الحكومة نفسها.
وفي ظل هذه الظروف، يتحول ملف الأسرى إلى ساحة صراع داخلي مرير يفضح عجز القيادة الإسرائيلية عن إدارة المعركة.
اعتراف صهيوني بالفشل
من الناحية الأمنية، مجرد الحديث المتكرر عن صفقة تبادل هو اعتراف غير مباشر بأن الحسم العسكري لم يعد خيارًا ممكنًا.
فكل العمليات العسكرية على غزة لم تنجح في إعادة الأسرى أو القضاء على قدرة المقاومة على الاحتفاظ بهم كورقة ضغط.
هذا الواقع يمثل انتصارًا استراتيجيًا للمقاومة الفلسطينية، التي أثبتت أنها قادرة على فرض معادلات جديدة لا يستطيع الجيش الإسرائيلي تجاوزها.
الاحتجاجات إذن تعكس أن المجتمع الإسرائيلي بدأ يدرك الحقيقة المرة: القوة العسكرية وحدها عاجزة عن تحقيق الأهداف التي وعدت بها الحكومة.
الدور الإقليمي والدولي.. عودة الوساطات
مع تصاعد الاحتجاجات، يتعزز الدور الإقليمي والدولي في الملف.
وسطاء مثل مصر وقطر يجدون أنفسهم أمام فرصة متجددة للعودة إلى طاولة المفاوضات.
في الوقت نفسه، تسعى أطراف دولية، أبرزها الولايات المتحدة، إلى الضغط على إسرائيل لإيجاد حل إنساني يحفظ ماء وجهها أمام الرأي العام العالمي.
استمرار الاحتجاجات يضع الحكومة الإسرائيلية في موقف حرج، إذ تبدو كطرف يرفض الحلول الإنسانية، في وقت تتزايد فيه الانتقادات الدولية لجرائمها في غزة.
وهنا يظهر البعد الأخلاقي، حيث تحولت قضية الأسرى إلى أداة لكشف التناقض بين خطاب إسرائيل عن "الديمقراطية" وواقع ممارساتها على الأرض.
المقاومة الفلسطينية.. ورقة الأسرى كسلاح سياسي
من زاوية أخرى، الاحتجاجات تكشف أن المقاومة الفلسطينية نجحت في نقل المعركة إلى عمق المجتمع الإسرائيلي.
فبدلًا من أن يظل الصراع محصورًا في ساحات غزة، أصبحت إسرائيل نفسها تعاني من انقسامات داخلية وضغوط جماهيرية هائلة.
ورقة الأسرى لم تعد مجرد قضية تفاوضية، بل تحولت إلى سلاح سياسي ومعنوي يمارس تأثيره يوميًا على الحكومة الإسرائيلية.
وهنا تكمن قوة المقاومة، التي استطاعت أن تحاصر إسرائيل من الداخل والخارج في آن واحد.
دلالات الاحتجاجات.. من الإنسانية إلى الاستراتيجية
يمكن تلخيص دلالات هذه الاحتجاجات في عدة نقاط أساسية:
- انهيار خطاب الحسم العسكري، وتحول ملف الأسرى إلى اعتراف بالفشل.
- تنامي قوة الشارع الإسرائيلي كعامل ضغط لا تستطيع الحكومة تجاهله.
- تآكل الثقة في نتنياهو، واتهامه بالتلاعب بمصير الأسرى لمصالحه السياسية.
- تعزيز مكانة المقاومة الفلسطينية كطرف أساسي لا يمكن تجاوزه في أي حل.
- فتح الباب أمام الوساطات الإقليمية والدولية التي قد تعيد إحياء مفاوضات شبيهة بصفقة شاليط السابقة.
وفي النهاية فإن تزايد الاحتجاجات الجماهيرية المطالبة بصفقة تبادل ليست حدثًا عابرًا، بل مؤشر على أزمة وجودية عميقة داخل إسرائيل.
فهي تعكس التناقض بين حكومة تسعى لتكريس خطاب القوة والرفض، ومجتمع يزداد يأسًا ويبحث عن أي سبيل لإعادة أبنائه. ومع استمرار هذه الموجة، يبدو أن نتنياهو محاصر بين ضغط داخلي من الشارع وضغط خارجي من الوسطاء والدول الكبرى.
وفي كل الأحوال، تبقى المقاومة الفلسطينية الطرف الأكثر استفادة، بعدما أثبتت أن أوراقها لا تُسقطها القنابل، بل تزداد تأثيرًا مع مرور الوقت.