ياسر أبو هلالة
كاتب وصحفي، المدير الأسبق لقناة الجزيرة
لا زلتُ أذكر الليلة التي وصلت فيها إلى مدينة نيويورك ليلا. لمعت من شبّاك الطائرة، جزيرة من نور. تذكّرت مقولة رمزي يوسف لضابط المخابرات الأميركية (سي آي إيه) الذي قال له عندما رأى هذا المشهد: أنظر لا يزال منتصبًا... وكن يقصد برج مركز التجارة العالمية الذي فشل في تدميره عام 1993، فردّ عليه: ما كان كذلك لو كنتُ أملك مالًا أكثر ورجالًا أكثر. ...
وعندما زرتُ نيويورك بعدها بعشر سنوات، كانت طموحات رمزي يوسف قد تحقّقت، مع الأسف، على يد ابن أخته خالد الشيخ، في ما عُرفت بغزوة نيويورك في "11 سبتمبر" (2001). ردّد أيمن الظواهري، في خطاب تبنّي الغزوة، السؤال الأميركي: "لماذا يكرهوننا؟". وبعد أكثر من عقدين من التفجيرات، ينتخب الأميركيون بشكل غير مسبوق زهران ممداني عمدةً لبلديتهم، وهي أغنى بلدية في العالم، تضم أكبر جالية يهودية خارج دولة الاحتلال. بعيدًا عن التفاصيل والأرقام غير المسبوقة منذ 1969نسأل: لماذا يحبّوننا؟ وكيف غزا مهاجرٌ حفيد مهاجريْن قلوب مدينة المهاجرين؟ حتى الناخبين اليهود أعطوه، بحسب استطلاع CNN، في سباق رئاسة بلدية نيويورك، حصل منافسه أندرو كومو على أصوات 63% منهم، وممدني على 33%، أي ثلثهم. كان الناخبون الذين حسموا الانتخابات الرئيسية يوم الثلاثاء أكثر اهتمامًا بالاقتصاد والوظائف وتكاليف المعيشة. هذا وفقًا لاستطلاع رأي الناخبين لوكالة أسوشيتد برس، وهو استطلاع موسّع شمل أكثر من 17 ألف ناخب في نيوجيرسي وفيرجينيا وكاليفورنيا ومدينة نيويورك، وهي، ولو سلّمت قيادها لاشتراكي، عاصمة الرأسمالية في العالم، إذ وصل الناتج المحلي الإجمالي لها لعام 2024 نحو 2.297 تريليون دولار!.
وعلى أهمية العوامل التي أدّت إلى فوزه، وهي بالدرجة الأولى اقتصادية، فباختصار، انتصار المستأجر على المالك، إلا أن العامل السياسي ظلّ حاسمًا. وقد أعادت قناة اليمين الصهيوني، فوكس، بعد فوزه نشر تصريحاته التي يهدد فيها باعتقال نتنياهو ومحاكمته في حال وصل إلى نيويورك. وقبل فوزه، نشرت "نيويورك تايمز" تقريرًا عن علاقته بالسياسي البريطاني العريق في معاداته الصهيونية، جيرمي كوربن، وبقدر ما يفرحنا هذا، فإنه بدأ يُستخدم لمحاربته وشيطنته.
هاجر أهله من الهند إلى إفريقيا قبله، والده مثقف معروف بمواقفه المعادية للاستعمار، انتخب الأميركيون مسلمًا ولا ينكر إسلامه. قال في خطاب النصر "أنا مسلم. أنا اشتراكي ديمقراطي. والأكثر إدانة من ذلك كله، أنني أرفض الاعتذار عن أي من هذا". وأضاف "بعد الآن، مدينة يمكنك فيها المتاجرة بكراهية الإسلام والفوز في الانتخابات. سيتم تعريف هذا العصر الجديد بالكفاءة والرحمة اللتين وُضعتا في تعارض مع بعضهما بعضهما فترة طويلة جدًا".
لقد نجح الفتى في غزو القلوب، والانتماء لمدينة المهاجرين، لا تدميرها. واعتبر محللون فوزه هدية قبل انتخابات التجديد النصفي العام المقبل، حيث من المرجّح تصوير عمدة المدينة الاشتراكي في صورة كاريكاتورية لليسار التقدمي المتطرّف، لتخويف الناخبين المعتدلين والمتردّدين وإبعادهم عن مرشّحي الحزب الديمقراطي. ...
في الحملة الانتخابية، اتهمه الديمقراطي (المستقل) كوومو والجمهوري كورتس سليوا بإذكاء نيران معاداة السامية. وتعرض الاشتراكي زهران ممداني لانتقادات شديدة لرفضه إدانة عبارة "عولمة الانتفاضة"، وقد اعترف بحقّ إسرائيل في الوجود، ولكن ليس دولة يهودية، وكان قد تعهد في وقت سابق باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو إذا وطأت قدماه نيويورك. ووقّع أكثر من 1100 حاخام في جميع أنحاء الولايات المتحدة على رسالة تتهمه بتفاقم "العداء تجاه اليهودية واليهود". وفي هذه الأثناء، وصفته ممثلة الحزب الجمهوري في نيويورك، إليز ستيفانيك، بأنه "مرشّح جهادي"!.
وفي الواقع، ممداني، جهادي بالمعنى الإيجابي، مناضل سليل مناضلين، نتاج ثقافة شديدة التنوع والتعقيد، والده مثقف يساري معادٍ للاستعمار، وفي إهداء كتابه "لا مستوطن ولا مواطن ... صنع أقليات دائمة وتفكيكها"، كأن الأب يرسم عام 2020 مشهد فوز ابنه: "إلى زهران... لقد علمتنا كيف تشتبك بالعالم في أوقات عصيبة. ... لعلك تلهم الكثير وتنير المسير. ... إنه مثل درب في الأرض – لا يوجد بالبداية، ولكنه يصبح موجودًا. ... عندما يسلك الكثير من الناس الطريق نفسه". وبحسب الكاتب لو هسون، لم تكن نيويورك موجودة، المهاجرون الذين طرقوا دربها صنعوا طريقًا، ومنهم زهران ووالده محمود ممداني. وفي الكتاب الذي ترجمه الباحث عبيدة عامر غضبان، ونشرته الشبكة العربية للأبحاث والنشر بالعربية، ينطلق محمود ممداني من فرضيةٍ جوهرية مفادها أنّ "الاستعمار" و"القومية" ليسا ظاهرتين منفصلتين، بل "ولدتا معًا" في سياق الحداثة السياسية. من ثمّ، يرى أن الدولة القومية والجماعات التي تُعرّف أنها "أقلّية" أو "اليوم الآخر" ما هي إلا نتاجان متلازمان: الدولة تسعى إلى توحيد الداخل تحت هوية كبرى، ما يثير نشوء "أقليات دائمة" في صورة المناضل.
بعد الفوز، كتب أحمد الأخرس، وهو أميركي عربي مسلم، عن ممداني "لم يساوم. لم يُلطّف خطابه. لم يغيّر لغته تبعًا للجمهور. لم يتراجع عن موقفه الواضح والحازم ضد الحرب الإبادية المستمرة على غزّة، رغم المناخ السياسي الذي كان أي مستشار “جاد” فيه سيعتبر هذا الموقف انتحارًا سياسيًا. وهذا فعلًا ما اعتقدته معظم القوى النافذة في البيئة السياسية الأميركية.
اصطفّ التيار الديمقراطي المؤسّسي ضده، وكذلك الآلات الجمهورية". موضحا "نادرٌ أن نرى في التاريخ السياسي الأميركي الحديث لحظة توافقت فيها كل أطياف القوة، اليسار واليمين والمركز والشركات والإعلام التقليدي، على هدف واحد: منع زهران ممداني". ولم تنتصر الممدانية على الترامبية فقط، انتصرت على اللوبي الصهيوني بكل امتداداته الاقتصادية الثقافية والسياسية والإعلامية. لقد بلغ الأمر في صحيفة واشنطن بوست ان تكتب افتتاحية قبل الانتخابات بأيام، تدعو سكّان نيويورك إلى "التصويت للفاسد: فهذا مهم". اعتقدوا أن إحياء المنطق الأخلاقي وراء شعار انتخابات لويزيانا القديمة "صوّت للمجرم"، سيحوّل كومو إلى "شرّ لا بد منه"، في صحيفة شعارها "الديموقراطية لا تعيش في الظلام".
لقد انتصرت الممدانية على ثقافة الكراهية، بما فيها الكراهية "الإسلامية". علينا أن نعترف أن ثقافة الكراهية ليست فقط من الآخر، فالذين نفّذوا تفجيرات نيويورك سواء عام 1993 أو عام 2001 كانوا مشبعين بثقافة الكراهية. وهي ليست موروثة جينيًّا، بقدر ما هي مكتسبة بفعل عوامل سياسية وثقافية، إذ تعود كراهية أميركا إلى عامل سياسي أساسي، وهو دعمها العدوان الإسرائيلي، وهي مسألة قابلة للتغيير وبشكل متبادل. كما حصل أمس. وهو ما يدفعنا إلى أن نسأل السؤال الكبير: لماذا يحبّوننا؟
أبراج نيويورك يعمّرها مهاجرون ويسكنها ويملكها مهاجرون، المطلوب إشاعة ثقافة التعمير لا التدمير، والمواطنة والجدارة والتميّز، لا التمييز، وانتخابات نيويورك أشاعت ذلك، بقدر ما استفزّت الكارهين.

