قبل نحو 12 عامًا،  وتحديدا الجمعة17 أغسطس تحوّل مسجد الفتح في ميدان رمسيس وسط القاهرة إلى بؤرة مقاومة سلمية بعد اشتباكات عنيفة اندلعت بين المتظاهرين الرافضين للانقلاب العسكري من جهة، وقوات الأمن من جهة أخرى.

فرّ كثير منهم للاعتصام داخل المسجد بعد أن امتلأ الميدان بالرصاص والقنابل، فبعثوا داخله أمل النجاة. لكن عودة الدولة الغاشمة جعلت من عملية الاقتحام مشهدًا دمويًا موثّقًا. وفي الذكرى السنوية لهذا اليوم، نعيد قراءة تفاصيل بفيديوهات توثّق الحدث وتعيد طرح تساؤلات حول مصير الاحتجاج السلمي في ظل أجهزة ترى في المساجد مهدًا للخطر.

 

المشهد الأولي للاعتصام

اعتصم المئات داخل مسجد الفتح بعد اندلاع مواجهات دامية في رمسيس، وفشل قوات الأمن في تفريق المتظاهرين. وصف شهود مختفون أن المسجد تحوّل إلى "مستشفى ميداني" للجرحى، وأن المعتصمين يتناوبون بين إسعاف المصابين والدعاء لله. محتجون مثل هاني نوارة، طبيب داخل المسجد، روى حالة الهلع وأن “غازًا مسيلاً للدموع والرصاص بدأ يخلط بين الهواء، وصرخات المصابين غزت المكان”.

https://youtu.be/0eqiMz0O0Zk

كان المسجد حصنًا مؤقتًا لوحدة وطنية مهزومة، لكنها لم تكن مستسلمة. احتجاجهم لم يكن سياسيًا فقط، بل إنسانيًا أيضًا: “نحن لسنا إرهابيين، نحن من اعتقل خشية على كرامتنا”، كما قالت إحدى النساء بدموعٍ تخنق الكلمات.

 

شروط الخروج... لماذا الخروج سمّهم؟

عرض على المحتجين خطة محتملة للخروج من المسجد في مجموعات صغيرة. عرضٌ مريبٌ لعنصر من الجيش بمرافقة قوافل الأمن، بعبارة "خروج آمن مقابل تسليم الأسماء". لكن المحتجين رفضوا هذا العرض خوفًا من "تلفيق تهم".

تحت آثار القتل والغاز والرصاص، طالبوا ببساطة: الخروج الآمن بشرفهم. لكن الدولة اختارت أن تخترق الحماية بصمت، فبدأ اطلاق النار المباشر وسط رفض شعبي واضح لهم بالخروج دون ضمان أمني حقيقي.

 

اقتحام المسجد

https://youtu.be/QUSz6i4Dbz8

يوثّق الفيديو اقتحام المسجد بغطاءٍ أمنيٍ كثيف. أُخبر الناس أن بعض "المسلحين" نصبوا في المئذنة، دون تمكين أي مراقب مستقل من التحقق.

حين خرج المحتجون، تعرّضوا للضرب بالسحل، وإطلاق الرصاص الحي والقنابل داخل المسجد وعلى الخارجين منه. أحد النساء قالت إنها عوملت معاملة مهينة بمجرد أن ردّت "حسبنا الله ونعم الوكيل".

 

أعداد الضحايا... رقعة الدم تمتلئ

توصلت تقديرات رسمية بأن 173 شخصًا قتلوا في يوم واحد، معظمهم خارج المسجد لكن عدد منهم تم احتجازه داخل المسجد مسبقًا كجثة أو مصابًا. كما وثقت تقارير وفاة المئات في أنحاء مختلفة من البلاد ضمن ريتوريت "جمعة الغضب".

حتى اليوم، لم تصدر بيانات شفافة بأسماء الضحايا أو أوضاعهم داخل أو بعد الاقتحام، ولا توجد مسوغات قانونية لحماية أهالي الضحايا من التنكيل أو المضايقات بعد وفاة ذويهم في "مسرح الدفاع عن الحرية".

www.theguardian.com/world/2013/aug/17/egypt-army

 

المطالب السلمية... تحوّلت إلى جرائم إرهابية؟

المتظاهرون داخل مسجد الفتح كانوا يطالبون بإرجاع الرئيس المنتخب محمد مرسي والعودة إلى مسار ديمقراطي. موقع المسجد كان بمثابة منارة لمطالب شعبية ظهرت خلال الثورة. لكن الدولة نظّرت لهم بالعنف، وصوّرت المساجد السلمية كبؤر إرهابية، ما ساهم في ترويج قانون الطوارئ وتوسيع صلاحيات القمع الأمني.

هؤلاء المحتجون لم يصحبوا سلاحًا إلا رفضهم الأمن غير المشروع. صراخهم داخل الجدران كان رفضًا للانقلاب لا تهديدًا للشعب.

 

المصير المتكرر... المساجد كمقاعد حكم

تجربة مسجد الفتح أصبحت نموذجًا لما يمكن أن تُقاصره الدولة بالمساجد حين يتحوّل النقد الشعبي إلى تحدٍّ علني. الاعتقال الجماعي، المحاكمات الجماعية -مثلاً تم محاكمة 494 شخصًا في القضية المتعلقة بالأحداث—تُشير إلى نزعة تحويل مقاومة السلمية إلى عناوين أمنية وملاحقات جماعية.

الأهم أن الدولة حولت "الأمن الوطني" إلى ردعٍ دائم، حتى بات المساجد والميادين محصورين في سياق سياسي أمني بحت لا يحتمل المعارضة السلمية.

على الرغم من مرور سنوات منذ حادثة مسجد الفتح، فإنّ رمزية هذا اليوم لم تُمحَ. قصة الاقتحام والقتل الجماعي لم تنتهِ مع خروج الجثث من الجدران. اليوم، كما الأمس، يزداد الشعب المصري ذكاءً ووعيًا بأن المطالب السلمية لا تُخمد بعنف، بل تتحوّل إلى جرحٍ لا يُشفى ما لم تتضح ملامح العدالة الحقيقية، وما دمنا نثير في نفوسنا هذه الذكرى، فإنّ الحراك الذي بدأ في "الفتح"، بات نورًا يُضئ طريقًا للحرية.