في خطوة صادمة للرأي العام، أثار وزير الصحة المصري موجة من الانتقادات الحادة بعدما دافع عن سياسة "تصدير الأطباء" المصريين إلى الخارج، باعتبارها وسيلة لزيادة التحويلات المالية ودعم الاقتصاد الوطني.
تصريحات الوزير بدت وكأنها تبرر نزيف العقول والكفاءات الطبية التي تعاني منها مصر منذ سنوات طويلة، بينما يظل المواطن المصري يدفع ثمن هذا النزيف في شكل نقص حاد في الأطباء وارتفاع تكاليف العلاج وتردي الخدمات الصحية.

لكن ما زاد الطين بلة هو أن هذه السياسة ليست اجتهادًا فرديًا من الوزير، بل تأتي انعكاسًا مباشرًا لرؤية عبدالفتاح السيسي وحكومته، التي تحولت إلى ما يشبه شركة سمسرة كبرى في الكفاءات المصرية، تبيع أفضل ما لديها للخارج مقابل حفنة من التحويلات.
 

نزيف العقول الطبية بالأرقام
تؤكد إحصاءات نقابة الأطباء أن مصر سجلت حوالي 212,835 طبيبًا حتى عام 2020، لكن أكثر من 56% منهم يعملون خارج البلاد. أي أن عدد الأطباء العاملين داخل مصر لا يتجاوز 62 ألف طبيب فقط، وهو رقم هزيل مقارنة بعدد السكان الذي يقترب من 105 ملايين. معدل الأطباء في مصر لا يتجاوز 6.7 لكل 10 آلاف مواطن، بينما المتوسط العالمي يبلغ نحو 20 طبيبًا. هذه الفجوة الصارخة تعني أن ملايين المصريين يواجهون أزمات حقيقية في الحصول على الرعاية الصحية الأساسية.

الأخطر أن أزمة النزيف لا تتوقف. فاستطلاعات حديثة تشير إلى أن 66% من الأطباء الشباب يفكرون جديًا في الهجرة، و85% من طلاب كليات الطب يخططون لمغادرة البلاد فور تخرجهم. الأرقام وحدها تكفي لإثبات أن تصريحات وزير الصحة لم تكن إلا إضفاء شرعية على واقع كارثي.
 

جدول زمني لهجرة الأطباء في مصر

  • 2014: بداية موجة هجرة ملحوظة بعد قرارات تقشفية أثرت على أجور الأطباء، ومع زيادة الضغوط الأمنية والسياسية ارتفعت طلبات السفر للعمل بالخليج وأوروبا.
  • 2016: مع أزمة تعويم الجنيه وارتفاع تكاليف المعيشة، سجلت النقابة ارتفاعًا كبيرًا في طلبات استخراج شهادات السفر. تقديرات غير رسمية تشير إلى مغادرة نحو 7 آلاف طبيب خلال عام واحد.
  • 2018: تقرير نقابة الأطباء أكد أن معدل الأطباء المتواجدين فعليًا في مصر لا يتجاوز 60% من إجمالي المسجلين، وأن أعداد المهاجرين في تزايد مستمر.
  • 2020: وزارة الصحة تعلن أن إجمالي الأطباء المسجلين حوالي 212,835 طبيبًا، لكن 56% منهم يعملون خارج البلاد.
  • 2022: النقابة تكشف أن نحو 11 ألف طبيب استقالوا من وظائفهم في القطاع الحكومي خلال 3 سنوات فقط، معظمهم غادر إلى الخارج.
  • 2024: دراسات أكاديمية حديثة تؤكد أن 66% من الأطباء الشباب و85% من طلاب كليات الطب يفكرون جديًا في الهجرة فور التخرج.
     

وزير الصحة يبرر… والسيسي يرعى
انتقادات الكاتب عمار علي حسن جاءت مباشرة ومعبّرة حين وصف هذه السياسة بأنها "حل يليق بالسماسرة لا برجال الدولة"، مشيرًا إلى أن تصدير الأطباء يعني بقاء الأقل كفاءة في الداخل، وارتفاع تكلفة العلاج على المواطن، بدلاً من بناء نظام صحي قوي يدر دخلاً أكبر من قناة السويس عبر جذب المرضى العرب والأفارقة.

 

 

من جانبه، شدد د. مصطفى جاويش على أن حق المواطن في العلاج المجاني لمدة 48 ساعة في الطوارئ يقابله حق المستشفى في الحصول على مستحقاتها من الحكومة. لكن الحكومة، عوضًا عن دعم هذا الحق، تبحث عن حلول مالية قصيرة الأجل عبر "بيع الكفاءات". هنا تتضح الصلة بين خطاب الوزير وسياسات السيسي: الأول ينفذ ويبرر، والثاني يخطط ويموّل على حساب صحة المصريين.
 

 

آثار كارثية على المواطن
النتيجة المباشرة لهذه السياسة أن المواطن المصري أصبح رهينة لنقص الأطباء وارتفاع الأسعار. فالمستشفيات الحكومية تعاني عجزًا حادًا في التخصصات الدقيقة، بينما يهرب المرضى إلى القطاع الخاص بتكاليف باهظة. خدمات الطوارئ المجانية التي تكفلها القوانين تبقى حبرًا على ورق في ظل ضعف التمويل الحكومي. وفي القرى والمناطق النائية، تتضاعف الكارثة مع انعدام وجود أطباء مقيمين أو خدمات إسعافية فعالة.

هذه المعاناة اليومية تقابلها أرقام صادمة عن التحويلات المالية: فالحكومة تنظر إلى الطبيب كـ"سلعة تصديرية"، بينما تنسى أن بناء نظام صحي قوي قادر على جذب المرضى الأجانب كان سيحقق لمصر مليارات الدولارات بشكل مستدام، دون إفقار الداخل.
 

بين سمسرة النظام وصمت النقابة
النقابة الطبية تكرر التحذيرات وتدعو لتحسين الرواتب وظروف العمل لوقف النزيف، لكن الحكومة تتجاهل، والوزير يبرر، والسيسي يواصل الاستثمار في مشروعات استعراضية كالعاصمة الإدارية، تاركًا الصحة في أدنى أولوياته. في هذا السياق، تصبح تصريحات الوزير جزءًا من منظومة كاملة: تحويل مصر من دولة تمتلك كفاءات إلى سمسار يبيع خبراته للخارج، بينما يترك مواطنيه يواجهون المرض والعجز.

تصريحات وزير الصحة لم تكن زلة لسان، بل كانت إفصاحًا صريحًا عن استراتيجية يتبناها النظام بأكمله. الوزير يبرر، والسيسي يقرر، والشعب يدفع الثمن.
وبدلًا من الاستثمار في البنية التحتية الصحية ووقف نزيف العقول، يصر النظام على سياسة "التصدير مقابل التحويلات"، كأن مصر لم تعد وطنًا يحتضن أبناءه، بل سوقًا مفتوحة تبيع أفضل كفاءاتها للخارج. وفي ظل هذا النهج، يظل السؤال الملح: من سيبقى ليعالج المصريين حين يرحل الجميع؟