شهدت الأسابيع الأخيرة تصعيداً غير مسبوق في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضد كل من مصر وقطر وتركيا، في وقت تتزايد فيه الضغوط الدولية على إسرائيل لوقف الحرب على قطاع غزة، بالتوازي مع اتساع نطاق الإدانات لجرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.

هذا التصعيد يثير تساؤلات جوهرية: لماذا يلجأ نتنياهو إلى فتح أكثر من جبهة سياسية وإعلامية في الوقت ذاته، بدلاً من التهدئة أو التركيز على الداخل الإسرائيلي، وهو يواجه بالفعل عزلة دولية متنامية؟

أولاً: الهروب إلى الأمام

يبدو أن نتنياهو يحاول عبر هذه الهجمات السياسية والإعلامية تحويل الأنظار عن المأزق الاستراتيجي الذي تواجهه حكومته في غزة.

فمع عجز إسرائيل عن تحقيق حسم عسكري، وازدياد الكلفة الإنسانية والسياسية للحرب، يجد نفسه مضطراً إلىتصدير أزمته نحو الخارج عبر افتعال معارك كلامية مع دول إقليمية مؤثرة.

الهجوم على مصر وتركيا وقطر، التي تعد أطرافاً رئيسية في القضية الفلسطينية، يتيح لنتنياهو خلق رواية بديلة للرأي العام الإسرائيلي تقوم على فكرة "المؤامرة الدولية ضد إسرائيل"، ومن ثم محاولة استعادة اصطفاف داخلي حوله باعتباره "المدافع الأول عن الدولة العبرية".
 

ثانياً: استهداف وسطاء محتملين

تكتسب تصريحات نتنياهو ضد قطر وتركيا ومصر بعداً آخر، إذ إن هذه الدول تلعب أدواراً مباشرة أو غير مباشرة في جهود التهدئة، وفي ملفات إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية، بل وتحتفظ بعلاقات مع فصائل فلسطينية وعلى رأسها حركة حماس.

من خلال مهاجمتها علناً، يحاول نتنياهو إضعاف مكانتها كوسطاء مقبولين، والتشويش على أي محاولات دبلوماسية قد تقود إلى وقف إطلاق النار بشروط لا تناسب إسرائيل.

كما يسعى لاتهام هذه الدول أمام الغرب بأنها منحازة أو "داعمة للإرهاب"، وبذلك يبرر استمرار العمليات العسكرية ورفض الضغوط الدولية.
 

ثالثاً: توظيف الورقة الأميركية

لم يغفل نتنياهو، خلال هجومه على تلك الدول، التذكير المتكرر بأن إسرائيل ما زالت تحظى بدعم الولايات المتحدة.

هذا التأكيد يهدف إلى بعث رسائل مزدوجة: الأولى للرأي العام الإسرائيلي بأن بلاده ليست معزولة تماماً، والثانية للدول الإقليمية بأن أي محاولات لتضييق الخناق على إسرائيل ستظل محدودة في ظل المظلة الأميركية.

لكن هذا النهج يضاعف من عزلة إسرائيل عربياً وإسلامياً، ويكرّس صورة حكومة نتنياهو كعقبة رئيسية أمام أي تسوية سياسية.
 

رابعاً: اختبار المواقف العربية

تصريحات نتنياهو تجاه مصر مثلاً، وما رافقها من مزاعم عن إمكانية فتح معبر رفح، كانت بمثابة "اختبار حدود" لموقف القاهرة.

فمصر أعلنت رفضها لأي مخططات تهجير للفلسطينيين، وقالت إنها لن تكون شريكة في تصفية القضية.

الرد المصري الرسمي كشف أن محاولات نتنياهو للضغط أو الإيحاء بتحميل مصر مسؤولية الوضع الإنساني في غزة قد فشلت، وربما ترتد عليه عكسيًا عبر توحيد الموقف العربي الرافض لسياساته.
 

خامساً: صناعة عدو خارجي لتوحيد الداخل

من منظور السياسة الداخلية الإسرائيلية، قد يكون فتح جبهات متعددة استراتيجية مدروسة لنتنياهو، إذ إن التركيز على "عدو خارجي" يساعده على تهدئة الانقسامات الداخلية، خاصة في ظل الانتقادات المتزايدة لطريقة إدارته للحرب.

عبر مهاجمة قوى إقليمية، يسعى إلى تحويل النقاش الداخلي من إخفاقات الحكومة إلى "الخطر الوجودي" الذي يواجه إسرائيل من الخارج.
 

سادساً: أثر ذلك على صورة إسرائيل

رغم محاولات نتنياهو، فإن النتيجة المباشرة لخطابه كانت توسيع جبهات المواجهة الدبلوماسية.

فتصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جاءت قوية ومباشرة في التأكيد على الحقوق التاريخية لتركيا والعالم الإسلامي في القدس.

أما مصر، فقد صعّدت خطابها الرسمي منذ معاهدة السلام عام 1979، حين وصف قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي إسرائيل بـ"العدو"، وربما كان ذلك مناورة إعلامية ليس أكثر.

أما قطر، فواصلت لعب دورها الإقليمي، متجاهلة الاتهامات الإسرائيلية.

هذا كله يعزز الاتجاه نحو عزل إسرائيل سياسياً، ويقوي دعوات المقاطعة وفرض العقوبات، خصوصاً مع تزايد الغضب الشعبي في العالمين العربي والإسلامي.

وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن فتح نتنياهو لأكثر من جبهة سياسية وإعلامية ليس تعبيراً عن قوة، بل انعكاس لحالة ضعف استراتيجي وارتباك داخلي.

فالهروب إلى الأمام عبر افتعال معارك مع مصر وقطر وتركيا، في لحظة تتكثف فيها الدعوات العالمية لمقاطعة إسرائيل وفرض حصار عليها، يفاقم عزلة حكومته، ويهدد بتفجير أزمات دبلوماسية أوسع نطاقاً.

وربما أظهرت بعض ردود الأفعال أن محاولات نتنياهو للضغط والتشويه قد ترتد عليه وتضع إسرائيل أمام واقع جديد من الرفض الصريح والمباشر، داخلياً وخارجياً.