تتصاعد الأزمة في منطقة طوسون بالإسكندرية بعد إصرار الأجهزة التنفيذية بقيادة محافظ الإسكندرية وعدد من اللواءات على تنفيذ قرارات الإزالة لمنازل الأهالي، رغم أن كثيراً منهم دفعوا مبالغ مالية ضخمة في ملفات التصالح. ومع الرفض الرسمي لإعادة هذه الأموال، يُجبر السكان على الانتقال إلى شقق صغيرة بمشروع "بشائر الخير"، ليست ملكاً لهم بل بنظام الانتفاع والإيجار، الأمر الذي أثار موجة غضب شعبية واسعة اعتبرها الأهالي "ظلماً مضاعفاً" على حساب البسطاء.
أموال التصالح تضيع بلا مردود
منذ سنوات، شجعت الدولة المواطنين على دفع مبالغ التصالح في مخالفات البناء كخطوة لتقنين أوضاعهم، ودفعت عشرات الأسر في طوسون مبالغ تراوحت بين 20 ألفاً إلى 60 ألف جنيه وفق مساحة المنازل. غير أن المفاجأة كانت في رفض الأجهزة رد هذه الأموال، بحجة أن القرارات السيادية لا تتضمن الاسترداد في حال صدور قرارات إزالة.
يقول الأهالي: "دفعنا التصالح على أمل أن نستقر في بيوتنا، والآن يزيلونها فوق رؤوسنا ويقولون انتقلوا إلى بشاير الخير". هذا الشعور بالخذلان خلق أزمة ثقة حادة بين المواطنين والسلطات المحلية.
الإصرار على الإزالات: قبضة أمنية لا حلول اجتماعية
الإصرار الحكومي على المضي في الإزالات، دون بدائل حقيقية تضمن بقاء الأهالي في مناطقهم أو إعادة تطويرها بشكل يراعي مصالح السكان، عكس هيمنة المقاربة الأمنية على حساب المعالجة الاجتماعية.
مصادر محلية أكدت أن اللواءات المشاركين في الملف شددوا على ضرورة "إخلاء المنطقة بالكامل" بدعوى أنها غير صالحة للسكن وتدخل ضمن نطاق مشروعات قومية. لكن واقع الأمر أن الإزالات تجري بسرعة، وبلا حوار مجتمعي أو تفاوض شفاف، ليجد الأهالي أنفسهم أمام قرار قسري: إما الإخلاء، أو فقدان المأوى.
"بشائر الخير": شقق صغيرة بنظام الانتفاع
المشروع البديل الذي تطرحه الحكومة أمام أهالي طوسون هو "بشائر الخير"، الذي يُسوَّق رسمياً كإنجاز حضاري لإعادة تسكين العشوائيات. غير أن الشقق هناك صغيرة جداً لا تتجاوز 60 متراً مربعاً في المتوسط، مقارنة بمساحات منازل الأهالي التي كانت أوسع وأكثر مرونة.
الأزمة الأكبر أن هذه الوحدات ليست ملكاً للمواطنين، بل بنظام الانتفاع والإيجار الشهري الذي قد يتجاوز 400 جنيه، ما يعني أن الأسرة ستظل تحت رحمة دفع الإيجار الدائم دون سند ملكية يضمن لها الاستقرار. ويصف بعض الأهالي ذلك بأنه "انتقال من بيت العمر إلى سكن مؤقت يُذكرنا بأننا ضيوف حتى في بلدنا".
آثار اجتماعية واقتصادية كارثية
الانتقال القسري إلى شقق صغيرة يعصف بالنسيج الاجتماعي الذي تشكل في طوسون لعقود. تفكيك العائلات الممتدة، انقطاع الصلات الاجتماعية، وإجبار الحرفيين وصغار التجار على ترك محلاتهم ومصادر رزقهم، كلها آثار تهدد الاستقرار الأسري والاقتصادي.
الخبير الاجتماعي الدكتور علي عبد الجليل يرى أن "هذه السياسات تزيد من معدلات الفقر الحضري، إذ يُجبر المواطن على دفع إيجارات جديدة مع فقدان مصدر رزقه، بينما الحكومة تعتبر ذلك إنجازاً عمرانياً". كما أن تقارير إعلامية أشارت إلى أن بعض من انتقلوا سابقاً إلى "بشائر الخير" عانوا من غياب الخدمات الكافية وارتفاع تكاليف المعيشة مقارنة بمناطقهم الأصلية.
غياب الشفافية وتراجع العدالة
القضية تكشف أزمة أعمق تتعلق بغياب الشفافية في إدارة ملف الإسكان وإعادة التطوير الحضري. فبينما تصرف مليارات الجنيهات على مشروعات ترفيهية وأبراج شاهقة في العاصمة الإدارية، تُهمل حقوق المواطنين في مناطق مثل طوسون، ولا يرد لهم حتى أموال دفعوها للتصالح. هذا التناقض يعزز شعوراً متنامياً بالظلم، ويدفع للتساؤل: هل هدف التطوير هو تحسين حياة المواطنين أم إخلاء الأراضي لصالح مشروعات استثمارية؟
وأخيرا فأزمة طوسون ليست حالة فردية بل نموذج متكرر في سياسات الإزالات وإعادة التسكين بمصر، حيث تغيب العدالة الاجتماعية وتعلو اليد الأمنية على صوت الحوار. إن رفض رد أموال التصالح، والإصرار على نقل الأهالي إلى شقق ضيقة بنظام الانتفاع، يضاعف معاناة الأسر الفقيرة ويجعل من "التطوير" عنواناً لتجريف حقوق البسطاء. وفي النهاية، يبقى المواطن المصري هو الحلقة الأضعف في معادلة العمران والسياسة، بينما تُدار الأرض والموارد لمصالح لا تعكس احتياجات الناس.