رغم الأجواء الاحتفالية التي سادت في الإعلام الرسمي بعد إعلان رفع التصنيف الائتماني لمصر، فإن الشارع المصري لم يشعر بأي تغيير حقيقي في معاناته اليومية.
فبينما تتباهى الحكومة بما تسميه “شهادة ثقة دولية”، يعيش المواطن على وقع تضخمٍ خانق وغلاءٍ متصاعد وانكماشٍ في قدرته الشرائية، في مشهد يكشف الفجوة المتسعة بين لغة الأرقام الرسمية وواقع الحياة على الأرض.
شهادة دولية أم دعاية سياسية؟
قبل أيام، رفعت وكالة ستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني لمصر لأول مرة منذ سبع سنوات إلى درجة “B” مع نظرة مستقرة، وهو ما وصفته الحكومة بأنه “دليل على نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي” و“انعكاس لثقة المجتمع الدولي في السياسات المصرية”.
لكن خلف هذا الاحتفاء، يرى اقتصاديون أن هذه “الثقة” لا تعكس واقعًا اقتصاديًا حقيقيًا بقدر ما تُستخدم كأداة سياسية لتلميع صورة النظام أمام الرأي العام والمؤسسات المالية الدولية.
الوكالة بررت قرارها بالإشارة إلى الإصلاحات الهيكلية وتحسن النمو وصفقات الاستثمار الكبرى مثل مشروع رأس الحكمة، إلا أن منتقدين يؤكدون أن هذه المؤشرات “ورقية” ولا تُترجم إلى تحسن معيشي حقيقي.
اتهامات بالتحيز والرشاوى المقنّعة
يرى خبراء مثل هاني توفيق أن وكالات التصنيف “لم تعد مؤسسات مالية محايدة، بل أدوات سياسية تخدم مصالح كبرى”.
ووصف توفيق هذه الوكالات بأنها “مسيسة وذات أهداف مشبوهة”، مؤكدًا أن قراراتها كثيرًا ما تُبنى على اعتبارات سياسية وليس على أسس اقتصادية.
وأشار إلى أن التاريخ القريب مليء بفضائح تضارب المصالح، من بينها دور هذه الوكالات في الأزمة المالية العالمية عام 2008 حين منحت تصنيفات مضللة لجهات دفعتها بالأموال.
ويرى منتقدون أن توقيت رفع تصنيف مصر “ليس بريئًا”، بل يأتي في سياق سياسي واقتصادي يهدف إلى تجميل صورة الاقتصاد المصري أمام المقرضين، وتسهيل الحصول على قروض جديدة، حتى وإن كانت مؤشرات الواقع تسير في الاتجاه المعاكس.
فجوة واسعة بين الأرقام والواقع
في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن “تحسن مؤشرات النمو”، لا يزال المواطن المصري عاجزًا عن تلمّس هذا التحسن في معيشته اليومية.
فمعدلات التضخم المرتفعة التهمت الأجور والمدخرات، والأسعار قفزت إلى مستويات غير مسبوقة، بينما يتواصل تآكل القوة الشرائية وانكماش الطبقة المتوسطة.
وتشير التقارير الدولية نفسها إلى أن المخاطر الأساسية لم تتغير:
- عجز مزمن في المالية العامة.
- عبء ديون متصاعد وفوائد تلتهم الموازنة.
- احتياجات تمويلية خارجية ضخمة.
- اعتماد مفرط على تدفقات قصيرة الأجل وصفقات مؤقتة.
اقتصاد بلا إنتاج وهيمنة بلا منافسة
يؤكد محللون أن “النمو” الذي تتحدث عنه الحكومة ليس نموًا إنتاجيًا حقيقيًا، بل يعتمد على تدفقات مالية مؤقتة وصفقات استثمارية ضخمة لا تصنع وظائف ولا تخلق قيمة مضافة.
ويضاف إلى ذلك التوسع المفرط للأجهزة السيادية في الأنشطة الاقتصادية، ما أدى إلى إقصاء القطاع الخاص وتحويل السوق إلى بيئة احتكارية مغلقة أمام المستثمرين المستقلين.
فبينما تروّج الحكومة لمصطلحات مثل “تحسين بيئة الأعمال” و“تشجيع الاستثمار”، يواجه رجال الأعمال واقعًا مغايرًا: إجراءات بيروقراطية، ضرائب ورسوم متلاحقة، وتدخلات مباشرة من كيانات الدولة التي باتت منافسًا لا منظمًا.
النتيجة: تصنيف يرتفع ومواطن ينهار
في النهاية، قد يمنح رفع التصنيف الائتماني النظام المصري جرعة دعم مؤقتة أمام المانحين الدوليين، لكنه لا يغير حقيقة أن الاقتصاد المصري يعيش على القروض والمعونات، وأن المواطن ما زال يدفع الثمن من معيشته اليومية.
فما لم يتحول الإصلاح الاقتصادي من مجرد شعارات رقمية إلى سياسات عادلة تُخفف التضخم وتدعم الإنتاج المحلي وتعيد للقطاع الخاص دوره الطبيعي، ستبقى “شهادات الثقة الدولية” مجرد أوراق لامعة تُغطّي على أزمة عميقة الجذور.