في الوقت الذي تغرق فيه مصر أكثر فأكثر في دوامة الديون، تبدو الحكومة بقيادة قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي عالقة في نمط متكرر من إدارة الأزمات عبر الاقتراض، بدلًا من إصلاح المنظومة الاقتصادية التي انهكتها السياسات العشوائية وغياب الشفافية. فبينما تستعد بعثة حكومية رفيعة للتوجه إلى واشنطن للقاء مسؤولي صندوق النقد والبنك الدوليين، ترتفع تساؤلات حادة حول جدوى هذا المسار الذي جعل الاقتصاد المصري رهينة لقرارات خارجية وشروط مالية قاسية، في مقابل غياب أي رؤية تنموية حقيقية تضع مصلحة المواطن في المقام الأول.
رحلة واشنطن: اقتراض متجدد بدل الإصلاح الحقيقي
يضم الوفد الحكومي المرتقب وزراء المجموعة الاقتصادية ومحافظ البنك المركزي، لكن الهدف من الزيارة ليس طرح خطة إصلاح هيكلية أو برنامج اقتصادي وطني، بل ببساطة البحث عن قروض جديدة تضمن استمرار الدولة في سداد ديونها القديمة. فالحكومة تطمح لتسلّم نحو 3 مليارات دولار قبل نهاية العام، منها 2.5 مليار دولار من صندوق النقد الدولي و500 مليون من البنك الدولي، لتسدّ فجوات تمويلية متكررة في الموازنة العامة.
هذا النهج الذي أصبح سمة دائمة في عهد السيسي، يعكس عجزًا بنيويًا في الإدارة الاقتصادية، إذ تتحول كل أزمة مالية إلى فرصة للاقتراض مجددًا دون أي محاسبة حقيقية أو تغيير في السياسات التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع. الخبير الاقتصادي محمود محيي الدين وصف هذا النمط بـ"إدارة الأزمات لا التنمية"، مؤكدًا أن استمرار هذه السياسة يجعل مصر أسيرةً لدائرة مفرغة من الديون والالتزامات، تمنعها من تحقيق استقلال اقتصادي أو سيادة مالية حقيقية.
تأجيل المراجعات: شهادة دولية على فشل التنفيذ
الأزمة لا تقتصر على العجز المالي، بل تمتد إلى فقدان الثقة في جدية الحكومة بتنفيذ الإصلاحات. فصندوق النقد الدولي أجّل صرف الشريحة الخامسة من القرض ودمج المراجعتين الخامسة والسادسة، بدعوى منح الحكومة مزيدًا من الوقت لتنفيذ التزاماتها. هذه الخطوة، رغم تلطيف صياغتها، تعدّ في حقيقتها اعترافًا بفشل القاهرة في الوفاء بوعودها، خاصة في ما يتعلق ببرنامج الطروحات الحكومية الذي تعثّر مرارًا بسبب تضارب المصالح وضعف الشفافية في إدارة الأصول العامة.
الصندوق ربط الإفراج عن التمويلات الجديدة بتنفيذ إجراءات صارمة، على رأسها خفض دعم الوقود وتسريع بيع الشركات العامة، وهي شروط تمس مباشرة حياة المواطن وتزيد أعباءه المعيشية، في حين تغيب أي ضمانات لوقف إهدار المال العام أو تحسين بيئة الأعمال. وهكذا، تتحمل الطبقات الوسطى والفقيرة تكلفة السياسات الخاطئة، بينما يواصل النظام الترويج لخطط “الإصلاح” عبر مؤتمرات وشعارات لا تنعكس على أرض الواقع.
استجداء الاستثمارات وبيع الأوهام المتكررة
الوفد المصري سيحمل إلى واشنطن أيضًا ملفات مستهلكة مثل “تشجيع الاستثمارات الخليجية” و“دعم مشروعات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر”، وهي شعارات تتكرر منذ سنوات دون نتائج ملموسة. فالمستثمرون الخليجيون أنفسهم أبدوا تحفظًا على ضخ أموال جديدة في مشاريع مصرية تفتقر إلى الوضوح في الملكية والإدارة. ومع ذلك، تواصل الحكومة تسويق نفس الوعود، بينما تتآكل القدرة الشرائية للمواطن وتتصاعد موجات التضخم والبطالة، دون أي إجراءات لحماية الفئات الأشد تضررًا.
هذا الإصرار على البحث عن الدعم الخارجي بدلاً من الإصلاح الداخلي يعكس عقيدة سياسية واقتصادية في إدارة الدولة: لا حوار وطني، ولا مساءلة حقيقية، ولا إصلاح بنيوي، بل استرضاء المؤسسات الدولية والرهان على القروض كمنقذ مؤقت من الانهيار. وهكذا يتحول كل قرض جديد إلى مسكن سياسي، يطيل عمر الأزمة ولا يعالج جذورها.
اقتصاد تحت وصاية الدائنين
بعد أكثر من عقد على استيلاء السيسي على الحكم، يقف الاقتصاد المصري في مفترق طرق خطير. فبدلاً من بناء اقتصاد إنتاجي يعتمد على الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، تم الزجّ بالبلاد في مسار يقوم على الاقتراض لتسديد الديون السابقة، ما جعل مصر من أكثر الدول النامية مديونية في الشرق الأوسط، بدين خارجي تجاوز 161 مليار دولار.
إن ما يقدَّم على أنه “إصلاح اقتصادي” ليس سوى إدارة للأزمة عبر مسكنات مالية مؤقتة، تمنح النظام بعض الوقت لكنها تؤجل الانفجار الحقيقي. وبينما تستمر الحكومة في استرضاء الدائنين، يبقى المواطن المصري هو من يدفع الثمن: غلاءً، وبطالة، وتراجعًا في مستوى الخدمات، في مشهد يلخص فشل الدولة في تحقيق أبسط وعودها بالاستقرار والازدهار.