شاب يبلغ من العمر 36 سنة يقدم على إنهاء حياته بالقفز من أعلى جبل المقطم، هربًا من الديون. المؤكد أن هذا الحادث المأساوي ليس الأول من نوعه الذي تتداوله وسائل الإعلام في مصر، فمثل هذه الأخبار أصبحت شبه يومية في بلد يقبع معظم سكانه تحت خط الفقر، ويعانون كثيرًا لتلبية احتياجاتهم الأساسية، في ظل الغلاء المتوحش، ولهيب الأسعار الذي يحرق الجميع خلال السنوات الأخيرة.
لسنا في سياق الدفاع عن حوادث الانتحار، أو إعطاء المبررات لها أيًا ما كانت المسببات، لكننا في سياق البحث عن الدوافع والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تشجع على تكرار مثل هذه الحوادث، التي تدق ناقوس خطر حقيقي بشأن سياسة الإفقار التي ينتهجها النظام الانقلابي في مصر، والتي تقوم على الاقتراض من الخارج لتنفيذ مشروعات لا تشكل أولوية مقارنة باحتياجات ومطالب الشعب المصري الحقيقية، وأدت إلى موجة لا مثيل لها من التضخم خلال السنوات الأخيرة.
ومنذ قرار حكومة الانقلاب في نهاية عام 2016 بتعويم الجنيه، تشهد أسعار السلع والخدمات ارتفاعات متواصلة، وكان آخرها القرار برفع أسعار الوقود بقيمة جنيهين في اللتر الواحد، وهو ما تبعه بالضرورة رفع تعريفة الركوب في المواصلات العامة، والسلع التي تعتمد بشكل أساسي على حركة النقل بين المحافظات.
ويربط استشاريون في الطب النفسي والأسري بين ارتفاع نسب الانتحار والسياسة الراهنة في مصر، متوقعين أنه في ظل الظروف الحالية زيادة نسب الانتحار، في ظل حالة اليأس التي أصابت قطاعًا كبيرًا من المصريين مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية.
مصر الأولى عربيًا في حوادث الانتحار
وتحتل مصر المرتبة 96 عالميًا من حيث حالات الانتحار بين صفوف الشباب حول العالم، حيث يتجاوز عدد المنتحرين 4250 منتحرًا سنويًا، وفق دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية عام 2017.
وتأتي مصر في المرتبة الأولى عربيًا من ناحية معدلات الانتحار، متفوقة في ذلك على دول تشهد نزاعات مسلحة وحروبا أهلية. وتليها السودان ثم اليمن فالجزائر.
ففي عام 2019، انتحر في مصر وحدها 3022 شخصًا، بحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية.
غير أن مركز البحوث الاجتماعية والجنائية في مصر (حكومي) أصدر تقريرًا في عام 2020 أشار فيه إلى أن معدل الانتحار لا يتجاوز 1.29 شخصًا لكل 100 ألف نسمة خلال عام 2018.
ورصد التقرير انتشار الانتحار بين سكان الريف وليس فقط سكان المدن المكتظة.
دوافع الانتحار
ووفق المركز، تتنوع دوافع الانتحار محليًا بين:
أسباب اجتماعية: الخلافات الأسرية، العنف، الطلاق، الاغتصاب، العلاقات العاطفية المرفوضة.
أسباب نفسية: الاكتئاب، الحزن الشديد، الشعور بالخسارة بعد وفاة أحد الوالدين.
صعوبات تعليمية: الإخفاق الدراسى والتنمر.
أسباب اقتصادية: البطالة، الديون، الضائقة المالية.
لكن البيانات الرسمية التي ترصد حالات الانتحار فى مصر أقل مما يحدث في الواقع، إذ أنها لا تتجاوز بضع عشرات سنويًا، مما يكشف عن التلاعب فيها، في محاولة للتقليل من أعداد المنتحرين، والتعامل معها في إطار حوادث فردية وليست ظاهرة مجتمعية تثير القلق:
وتتوزع الأرقام وفق البيانات الرسمية على النحو التالي:
2018: 89 حالة (66 ذكور، 23 إناث).
2019: 75 حالة (54 ذكور، 21 إناث).
2020: 101 حالة (74 ذكور، 27 إناث).
ينما شهدت البلاد 2584 حالة انتحار خلال عام 2021 وفق بيانات النائب العام، وتتركز النسبة الأكبر بين الشباب فى العقدين الثانى والثالث من العمر.
ورصدت المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، 322 حالة انتحار في مصر خلال عام 2023 في الفترة من شهر إبريل حتى مارس 2024، بمعدل 187 حالة انتحار خلال الستة أشهر الأولى من فترة الرصد إبريل إلى سبتمبر 2023، و135 حالة في الستة أشهر الأخيرة لفترة الرصد من أكتوبر 2023 حتى مارس 2024.
أكثر من 3 آلاف حالة سنويًا
ووفقًا للتقرير الذي يأتي استكمالاً لتقارير المؤسسة التي تناولت تلك الظاهرة منذ عام 2019، فإن "الصورة تقترب من الواقع السيئ الذي تصل فيه حالات الانتحار إلى أكثر من 3 آلاف حالة خلال تلك الأعوام".
إذ تقول إن هذا الرصد لا يمثل العدد الحقيقي لحالات الانتحار في المحافظات، والتي قد تصل إلى عدة آلاف سنويًا، ويمكن رصدها من محاضر الشرطة ودفاتر وزارة الصحة، إذ اعتمدت تقارير المؤسسة على رصد التناول الصحفي لحالات الانتحار والتغطية الإعلامية عنها بالمواقع المصرية والعربية فقط.
وجاءت محافظة الجيزة في الترتيب الأول بـ71 حالة خلال الفترة التي يتناولها التقرير، تليها محافظة القاهرة في المركز الثاني بـ63 حالة.
وجاءت محافظة سوهاج في الترتيب الثالث بـ38 حالة، تليها في الترتيب الرابع محافظة الدقهلية بـ28 حالة، وجاءت محافظة الفيوم في المركز الخامس بـ18 حالة.
ثم تليها محافظة المنوفية في الترتيب السادس بـ15 حالة، وفي المركز السابع محافظة المنيا بـ12 حالة انتحار، ثم محافظة القليوبية في الترتيب الثامن بـ11 حالة، تليها محافظتا الشرقية والغربية في المركز التاسع بعشر حالات لكل منهما.
وشهدت محافظة كفر الشيخ ست حالات، ثم محافظتا قنا وأسوان بخمس حالات لكل منهما، تليها في المركز التالي محافظتا الإسكندرية والبحيرة بأربع حالات لكل منها.
تليها محافظة أسيوط بـ3 حالات، بعدها محافظات السويس والإسماعيلية وبني سويف والوادي الجديد بحالتي انتحار في كل منهما. وفي المركز الأخير محافظات (البحر الأحمر، الأقصر، شمال سيناء).
وجاءت محافظات القاهرة الكبرى الثلاث (القاهرة والجيزة والقليوبية)، في الصدارة بمعدل 145 حالة بمعدل (75، 70) في نصفي العام على التوالي، تليها محافظات الوجه القبلي (الفيوم، المنيا، بني سويف، سوهاج، قنا، الأقصر، أسوان)، بإجمالي 84 حالة انتحار بمعدل (43 ،41) حالة خلال نصفي العام، بنسبة 08.26. تليها في الترتيب الثالث محافظات الدلتا مضافة إليها محافظة الإسكندرية بـ77 حالة بمعدل 54 حالة و23 في نصفي العام
وشملت تلك المحافظات المنوفية، الشرقية، الغربية، الدقهلية، كفر الشيخ، البحيرة، وفي المركز الثالث جاءت محافظات القناة (بورسعيد، السويس، الإسماعيلية)، في الترتيب الأخير بـ12 حالة.
"حياتك تستاهل تتعاش"
وفي مواجهة هذه الأرقام المقلقة حول انتشار الظاهرة، أطلقت وزارة الصحة في عام 2019، حملة تحت عنوان "حياتك تستاهل تتعاش" تضمنت افتتاح أول عيادة حكومية متخصصة لمواجهة الانتحار.
وتهدف الحملة إلى مواجهة الظاهرة ورفع وعي المجتمع بمخاطر الانتحار وأسبابه وآليات الوقاية منه والحد من الوفيات الناجمة عنه.