في مشهدٍ يعكس تحوّل القيم والمقاصد، لم يعد الحج في مصر فريضة روحية يسعى إليها المؤمنون خاشعين، بل صار تجارة موسمية تدرّ المليارات على الوزارات والجهات الرسمية، وصراعًا مكتومًا بين الداخلية والسياحة والتضامن على ما يشبه "جزية الحج"، في دولةٍ باتت تنظر إلى كل ركن من أركان الحياة — بل حتى أركان الدين — بمنطق الجباية لا الخدمة.

فبينما كان الحج قديمًا "رحلة العمر" التي يدّخر المصري لها طوال سنوات، صار اليوم حلمًا بعيد المنال لا يبلغه إلا الميسورون، بعدما تجاوزت تكلفته عشرة آلاف دولار، لتكون من الأعلى عالميًا، في بلد يعيش أكثر من ثلث سكانه تحت خط الفقر.

 

من عبادة إلى سوق موسمية

تحوّل الحج إلى مشروع استثماري مغلق تتحكم فيه الوزارات الثلاث: الداخلية، السياحة، والتضامن.
فقد رفعت الوزارات رسوم التأشيرات والإقامات والخدمات إلى مستويات غير مسبوقة، وسط اتهامات بتحويل فريضة الحج إلى باب من أبواب الكسب السيادي.

تبلغ تكلفة الحج البري هذا العام نحو 250 ألف جنيه، بينما يقفز الحج الفاخر — خمس نجوم — إلى 645 ألف جنيه، بسعر صرف يتجاوز 47 جنيهًا للدولار.
ويعزو مراقبون هذا الغلاء إلى تدهور الجنيه أمام العملات الأجنبية، وفرض رسوم خفية على كل خطوة في مسار التأشيرة، حتى إن الحكومة ألزمت الراغبين في الحج خارج الحصة الرسمية بدفع خمسة آلاف دولار إضافية كرسوم "غير معلنة" لتصاريح السفر.

 

صراع التأشيرات.. الغنيمة المقدسة

في منتصف أكتوبر، أعلنت وزيرة التضامن الاجتماعي مايا مرسي فتح باب التقديم لحج الجمعيات الأهلية بين 22 أكتوبر و6 نوفمبر، ضمن 12 ألف تأشيرة خصصتها اللجنة العليا للحج برئاسة رئيس الوزراء.
لكن هذه الحصة ليست سوى جزء من كعكة أكبر، تُقدَّر بنحو 78.500 تأشيرة رسمية سنويًا، تتقاسمها الوزارات الثلاث.

وزارة السياحة تستحوذ وحدها على نحو 36 ألف تأشيرة، فيما تتوزع البقية بين الداخلية والتضامن، في سوق مغلقة يصفها مراقبون بأنها "مغنم سيادي" تتنافس عليه الأجهزة الأمنية والبيروقراطية.

ويؤكد خبراء السياحة أن توزيع الحصص لا يخضع لمعايير العدالة أو الكفاءة، بل لمنطق النفوذ والمصالح، إذ تتحول التأشيرات إلى أداة للمحسوبية ومصدر دخلٍ ضخمٍ لشركات محدودة الصلة بالسلطة.

 

تكاليف فلكية وطبقة محرومة من الركن الخامس

تراوح أسعار برامج الحج الرسمية بين 300 و460 ألف جنيه للفنادق القريبة من الحرم، و280 ألف جنيه لحج القرعة، بعد أن كانت لا تتجاوز 95 ألف جنيه فقط في عام 2022.
وبمقارنة سريعة، نجد أن الحج في العراق أو الأردن لا يتجاوز 5 آلاف دولار، ما يعني أن المصري يدفع ضعف أو ثلاثة أضعاف ما يدفعه الحاج العربي في الدول المجاورة.

وفي ظل هذا الغلاء، بات المواطن المصري البسيط عاجزًا عن أداء الركن الخامس من الإسلام، ليصبح الحج ترفًا طبقيًا لا شعيرة دينية، فيما تتغنّى السلطة بشعارات "تنظيم المناسك" و"ضبط السوق".

 

فساد منظّم وسوق سوداء للتأشيرات

وراء الأرقام المتضخّمة تختبئ شبكة واسعة من سماسرة التأشيرات الذين يبيعون الأمل للمواطنين بأسعار خيالية.
يُتداول أن بعض الشركات تبيع تأشيرات الحج "غير الرسمية" مقابل مبالغ تتجاوز 15 ألف دولار، عبر وسطاء يستغلون حاجة الناس.

ومع تشديد السعودية إجراءاتها وإلغاء تأشيرات الزيارة والترانزيت للحج، يلجأ آلاف المصريين إلى دخول المملكة قبل الموسم، دون سكن أو خدمات، ليؤدوا المناسك سيرًا على الأقدام تحت حرّ الشمس، في مشهدٍ يختصر معاناة الفقراء الذين يُمنعون من عبادة ربهم إلا بثمن باهظ.

 

الحج في عهد السيسي.. جباية باسم الدين

يرى مراقبون أن ما يجري ليس مجرد سوء إدارة أو ارتفاع تكاليف الخدمات، بل سياسة ممنهجة لاحتكار المناسك وتحويلها إلى مورد مالي للدولة.
ففي حين تنفق السلطة المليارات على مشاريع ترفية وقصور رئاسية، تُثقل كاهل المواطن برسوم دينية جديدة، حتى غدت فريضة الحج عبئًا لا يُحتمل، وساحة جديدة للجباية العسكرية.