منذ أن قررت حكومة الانقلاب رفع أسعار الوقود، اشتعلت نيران الغلاء في كل زاوية من حياة المصريين. لم تقتصر الزيادات على البنزين والسولار فحسب، بل امتدت إلى المواصلات والمواد الخام وتكاليف التشغيل، لتتحول كل رحلة يومية إلى معركة بقاء. المواطن البسيط، الذي يعيش أصلاً على حافة الفقر، وجد نفسه عاجزًا عن موازنة كفة الدخل المتآكل مع طموحات أسرته الصغيرة.
الأسواق تغلي، والنقود تفقد قيمتها، والجيوب الفارغة أصبحت المشهد اليومي في بلدٍ يُدار بمنطق الجباية لا الإصلاح.

 

البيوت تشتعل من الداخل

لهيب الأسعار لم يعد مجرد رقم في نشرات الأخبار، بل نارٌ تشتعل في كل بيت. الأسر لجأت إلى مقاطعة اللحوم والفراخ وتقليص الكميات من السلع الأساسية، بعدما أصبحت أسعارها تفوق قدرة معظم الناس.
“الجيب فارغ”، يقول سعيد وهو يحكي كيف يتجنب أسئلة أطفاله عن نزهة أو هدية، مرددًا جملته المعتادة: إن شاء الله في الإجازة.
أما نسرين، فتحكي عن يومٍ حاولت فيه إعداد وجبة دجاج، لكن حين علمت ابنتها بسعر الكيلو، انفجرت باكية: ليه كل حاجة غالية يا ماما؟
داخل البيوت، تتفجر مشادات بين الأزواج حول المصاريف. سماح، ربة منزل، تقول: “زوجي يتهمني بالإسراف، بينما الأسعار نفسها لا تترك لي فرصة لأكون اقتصادية، حتى الخلاف صار يوميًا”.

 

تجار يتحكمون والسوق بلا رقيب

في الأسواق، تتكشف مأساة أخرى: التجار الكبار يحتكرون كل شيء. “منى”، بائعة في كشك صغير، تقول إنها تُجبر على رفع الأسعار وإلا فلن تحصل على البضاعة. أحد الباعة الصغار يروي أنه مُنع من البيع بسعر أقل من التاجر الكبير، وإلا “يتوقف التوريد عنه”.
المستهلك أبو كريم حاول مناقشة أحد التجار حول الزيادات، فسمع الجواب المعتاد: “دي أسعار السوق”. لكنه يصفها بالمراوغة، فالكثير من التجار يرفعون الأسعار قبل صدور القرارات الرسمية ويخزنون البضائع عمدًا “لتهيئة الجو للجشع”، على حد قوله.

 

عمال اليومية.. جوع صامت

الفئة الأكثر تضررًا تبقى عمال اليومية الذين يعيشون على ما تيسر من عملٍ يومي. “محمود” يعمل في البناء أو النظافة حسب الفرص المتاحة، ويقول: “أحيانًا أرجع البيت من غير جنيه”.
أما “عصام”، فيتنقل بين السواقة والعمل في الورش، لكن دخله لا يكفي حتى أجرة المواصلات.
ويحكي كمال عن لحظة كسرت قلبه حين أرسل ابنه إلى المدرسة دون مصروف مكتفيًا بقطعة خبز: “حسّيت إني بطفي النور في عيون ابني”.

 

التضامن الشعبي.. مقاومة الفقر بالابتكار

رغم الضيق، تولد من المعاناة شبكات تضامن بسيطة بين الجيران. “هدى”، أم لثلاثة أطفال، تقول إنها اتفقت مع جيرانها على شراء السلع بالجملة وتقسيمها لتوفير التكلفة، وحتى الطهي المشترك أصبح وسيلة لتوفير الغاز.
“حسناء” خففت من الالتزامات الاجتماعية ورفضت حضور دعوات “لأنها لم تعد تقدر على التكاليف”، بينما تحكي “أمينة” عن فكرة “الديش بارتي” في العائلة، حيث يجلب كل شخص طبقًا بسيطًا لتقاسم العبء وإحياء روح المشاركة.

 

ميزانية الربع كيلو.. عنوان المرحلة

في سوق شعبي بالدقي، تتجول أم أحمد بين الباعة تبحث عن أرخص لحم، قائلة: “كنت أشتري كيلو لحم أسبوعيًا، دلوقتي الربع كيلو بعمله وليمة”.
هذا المشهد صار قاعدة لا استثناء. المصريون استبدلوا اللحم بالفول والعدس كمصدر للبروتين.
“عم حسن”، سائق وأب لثلاثة أطفال، يقول بابتسامة حزينة: “ربع كيلو لحمة يخليني أحس إني ما حرمتش عيالي، والباقي فول وعدس”.

 

الأرقام لا تكذب

الزيادة الأخيرة في أسعار الوقود تراوحت بين 12% و33%، ما رفع تكاليف النقل بنسبة تقارب 20%. التضخم ابتلع ما تبقى من الرواتب، بينما الأجور شبه ثابتة.
الأسواق راكدة، الباعة يبيعون بأرباح ضئيلة لا تغطي الإيجار، والسلع تُخزّن انتظارًا لموجات جديدة من الغلاء.
الحكومة تبرر بأنها “إصلاحات مالية” لتقليل العجز، لكنها في الواقع تنقل العبء كله إلى المواطن، دون حماية اجتماعية أو شبكة دعم حقيقية.

 

أطفال المدارس.. ضحايا الغلاء

حتى المدارس لم تسلم من الأزمة. معلمة ابتدائية تقول: “كتير من الطلبة بيجوا من غير سندويتش، وبعضهم بيطلب يشرب من زجاجة زميله لأنه مش قادر يجيب واحدة.”
وراء هذه المشاهد مأساة أكبر يعيشها الآباء الذين يشعرون بالعجز أمام أبنائهم. “سعيد”، فني صيانة، يقول: “ابني طلب جزمة جديدة، قلت له نستنى لما تنزل عليها خصم، وقلبي اتكسر وأنا شايفه ساكت وزعلان.”

 

دولة الجباية ومواطن بلا أمان

رفع الوقود لم يكن مجرد قرار اقتصادي، بل زلزال اجتماعي امتدت ارتداداته إلى كل بيت، ففي ظل غياب الرقابة، وتآكل الأجور، واستفحال الاحتكار، يعيش المصريون اليوم بين نار الأسعار وبرد الفقر.
من ميزانية “الربع كيلو” إلى وجبة الفول، ومن دموع الأطفال إلى شجارات الأزواج، تتجلى حقيقة الأزمة: نظام يرفع الأسعار بلا رحمة، وسوق ينهش بلا ضمير، وشعب يُترك وحيدًا في مواجهة الجوع.