في زيارته إلى بروكسل في أكتوبر 2025، أطلق عبد الفتاح السيسي تصريحات اعتبرها مراقبون “الاعتراف الأوضح” بسياسة تصفية الأصول العامة مقابل استمرار تدفق القروض. قال السيسي صراحة إن “بيع أصول الدولة ليس خطأ”، مؤكدًا أن سداد الديون أولى من تنفيذ المشروعات، وأن “التخارج من بعض الأصول خيار اقتصادي ضروري في المرحلة الحالية”.
بهذا التصريح، فتح السيسي الباب على مصراعيه لتكريس نهج البيع مقابل البقاء، مقدّمًا ديون البلاد على احتياجات التنمية، ومعلنًا أن هدف المرحلة هو “تعزيز الاحتياطي النقدي وتوفير السيولة لتغطية الالتزامات الدولية”، حتى لو كان الثمن تصفية ما تبقّى من الممتلكات العامة.
خطة تصفية ممتلكات الدولة
وفق البيانات الرسمية، باعت مصر ما لا يقل عن 18 أصلًا بين مارس 2022 ويونيو 2024، أبرزها صفقة رأس الحكمة التي تجاوزت قيمتها 35 مليار دولار، إلى جانب أصول أخرى في الزعفرانة وجبل الزيت وقطاعات الطاقة والتصنيع. ورغم هذه الصفقات الضخمة، تجاوزت الديون الخارجية 165 مليار دولار، ما جعل العائد من البيع لا يتعدى سوى خدمة الدين لا سداد أصله.
ورغم الجدل الشعبي، كشفت الحكومة عن خطة جديدة لتصفية أصول إضافية بقيمة 25 مليار جنيه سنويًا، وأُنشئت لجنة حكومية لمتابعة عمليات التخارج، ما يعني أن الدولة تسير باتجاه الخصخصة الدائمة لا المؤقتة.
قوانين تُشرعن التفريط
في أغسطس الماضي، صدّق السيسي على قانون جديد يسمح ببيع أصول الدولة وإلغاء المادة التي كانت تحظر بيع أسهم شركات القطاع العام لجهات غير حكومية. التعديلات منحت صندوق مصر السيادي صلاحيات أوسع لبيع الممتلكات مباشرة، ما يجعل الصندوق بوابة خلفية لتفكيك الملكية العامة دون رقابة أو شفافية.
وفي يونيو، خصص السيسي نحو 41 ألف فدان من أراضي الدولة في البحر الأحمر لوزارة المالية، بهدف إصدار صكوك سيادية تُستخدم في خفض الدين العام، أي تحويل الأرض إلى أداة دين قابلة للبيع والرهان.
بهذا المسار، أصبحت أراضي الدولة وأصولها ملكًا متداولًا في السوق، تُباع وتُرهن بعيدًا عن أي رقابة شعبية أو قضائية، في ما يشبه خصخصة السيادة الاقتصادية.
غضب واسع واتهامات بالخيانة
ردود الفعل لم تتأخر. المتحدث باسم “حزب تكنوقراط مصر” يسري عزيز وصف تصريحات السيسي بأنها “فضيحة سياسية”، قائلًا: “السيسي اعترف بنفسه بأنه سيستمر في بيع أصول الدولة، وهذا اعتراف بالخيانة وبيع مقدرات الوطن.”
وأضاف أن صفقة رأس الحكمة تمثل “جريمة في حق الأمن القومي”، إذ سمح ببيع أرض استراتيجية للإمارات “التي ستبني ميناءً خاصًا بها داخل الأراضي المصرية”، على حد قوله.
ونشر الحزب ما قال إنها وثائق تؤكد وجود عقدين منفصلين لبيع أرض المشروع وأرض الميناء، متهمًا النظام بـ“الكذب على الشعب وتسويق البيع كاستثمار.”
السيسي فضح نفسه … أعلن خيانته لمصر وشعبها وكذبه … وأتحداه يُثبت العكس
— حزب تكنوقراط مصر (@egy_technocrats) October 23, 2025
في زيارة من زيارات تسول "وشحاته" السيسي قال السيسي أمام قادة الإتحاد الأوروبي أنه "يعدهم بالإستمرار في برنامج صندوق النقد وبيع أصول الدولة."
أُكرر أنه قال "الإستمرار في بيع أصول الدولة".
السيسي إعترف أنه… pic.twitter.com/8Yhu75DneF
الناشطة مها حسين علّقت على موقع “إكس” قائلة: “كل كلمة قالها عزيز حقيقية دامغة على خيانة السيسي وعمالته، والجيش يقف متفرجًا على بيع الأصول وضياع الأراضي والنيل دون محاسبة.”
كل كلمة حضرتك قولتها حقيقة دامغة على خيانة السيسى وعمالته👍
— Mha Hussein (@MhaHussein1) October 24, 2025
بالاضافة ايضا ان جيشنا بقيادة المجلس العسكرى الحالى لم يمنعه بل وقف متفرجا على ضياع النيل وبيع الاصول وبيع الاراضى المصرية ولم يوجه له تهمة الخيانة العظمى#مصر_بأيد_غيرأمينة
بين الدفاع والإنكار
في المقابل، دافع مؤيدو النظام عن السياسة الجديدة. كتب محمد طايع أن “من يقول إن السيسي باع أصول الدولة جاهل لا يفرّق بين البيع والاستثمار”، مؤكدًا أن “رأس الحكمة مشروع شراكة بمليارات الدولارات، والدولة صاحبة الأرض والسيادة.”
لكن اقتصاديين ردوا بأن الفرق بين البيع والشراكة يختفي عمليًا حين تتنازل الدولة عن إدارة الأرض وعائدها لعقود طويلة لصالح مستثمرين أجانب، دون رقابة برلمانية أو محاسبة مالية.
“تعظيم العائد”.. شعار جديد للبيع
تحاول الحكومة تغليف هذه السياسات بشعار “تعظيم العائد من أصول الدولة”. ففي اجتماع 1 يونيو 2025، وجّه السيسي الحكومة بمواصلة “تعظيم العائد وتحقيق قيمة مضافة للاقتصاد من خلال إدارتها بفعالية وتشجيع الشراكات مع القطاع الخاص”.
لكنّ المراقبين يرون أن هذا الخطاب مجرد تجميل لغوي لعمليات بيع فعلية، إذ يجري نقل ملكية شركات وأراضٍ وموانئ إلى مستثمرين محليين وأجانب مقابل سيولة عاجلة لسد العجز.
فقد تم بيع أصول في قطاع الطاقة بنحو 3.6 مليارات دولار، وتخارج الدولة من 200 شركة من أصل 700 مملوكة للقطاع العام، فضلًا عن طرح مشروعات كبرى في وسط القاهرة مثل مبنى مجمع التحرير وفنادق النيل ومقر الحزب الوطني القديم.
بين "الإصلاح" و"التصفية"
القانون الجديد الذي أقرّه السيسي لا يتحدث عن استثمار مستدام، بل يفتح الباب أمام بيع الأراضي والمصانع والموانئ تحت ذريعة الإصلاح المالي. عمليًا، ما يجري هو تجريف اقتصادي شامل يحوّل أصول الشعب إلى سيولة مؤقتة، بينما تتضخم الديون وتتآكل قدرة الدولة الإنتاجية.
من دون شفافية أو رقابة، تتحول عمليات البيع إلى صفقات مغلقة بين السلطة والمقرّبين منها، في غياب أي رقابة شعبية حقيقية. النتيجة، كما يقول الخبراء، أن الدولة تفقد استقلال قرارها الاقتصادي، وتتحول إلى وسيط بين الدائنين والمواطنين، تبيع ما تملك لتسدد ما استدانت.
من الدولة إلى الدائنين
بين خطاب بروكسل الذي يبرر بيع الأصول، والقوانين التي تشرعنه، تبدو مصر وقد دخلت مرحلة “التصفية الوطنية” لا الإصلاح الاقتصادي.
الديون تتضخم، الأصول تُباع، الأرض تُرهن، والسلطة تواصل التبرير تحت شعار “تعظيم العائد”.
وفي حين تُرفع شعارات التمكين الاقتصادي، يزداد الفقر، ويتراجع الإنتاج، وتضيع الثروات بين أيدي المستثمرين والمقرّبين.
هكذا تتحول الدولة من مالك للثروة إلى بائعٍ مضطرٍ لسداد الفاتورة، ويصبح كل مشروع بيع جديد خطوة إضافية نحو فقدان السيادة الاقتصادية، في زمنٍ يُدار فيه الوطن بمنطق التصفية لا التنمية.

