خلال افتتاحه لأحد المتاحف الكبرى، وقف قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي أمام عدسات الكاميرات وقال بثقة: "المتحف هدية مصر للعالم". كلمات أراد منها تقديم صورة حضارية لمصر، وكأن البلاد تتربع على عرش الاستقرار والرخاء، وقادرة على تصدير الرفاهية والجمال. لكن بينما كان الرئيس يتفاخر بهذا "الإنجاز"، كانت ملايين الأصوات في الشوارع، في البيوت، وعلى مواقع التواصل، تردد سؤالًا موجعًا: "فين هدية مصر للمصريين؟"
هذا السؤال لم يكن مجرد رد فعل ساخر، بل هو تعبير صادق عن الشعور العميق بالخذلان. فبينما تُصرف المليارات على المشروعات الفخمة التي تُقدَّم للعالم كصورة "لامعة" للدولة، يعاني المواطن العادي من انقطاع الدواء، وتدهور التعليم، وانهيار منظومة الصحة، وجنون الأسعار، وانعدام فرص العمل.
كيف يُقال إننا نُهدي العالم المتاحف، في حين لا يجد ملايين المصريين علاجًا مجانيًا أو حتى سريرًا نظيفًا في مستشفى حكومي؟
"هدية العالم" تلك بُنيت في بلد يعيش فيه أكثر من 30% من السكان تحت خط الفقر الرسمي، ونسبة أكبر تحت خط الفقر الحقيقي، في ظل أزمات اقتصادية متواصلة، وتضخم يتوحّش يومًا بعد يوم.
المشهد يبدو كما لو أن النظام يعيش في كوكب آخر، يحكم من أعلى برجه العاجي، بينما الناس تئن تحت وطأة الفواتير والضرائب وغياب الأمل.
السيسي يتحدث عن آثار وتاريخ عمره آلاف السنين، وعن حضارة الفراعنة، وكأن ذلك يعوّض الناس عن حاضرهم المُنهار. لكن الحقيقة أن الشعوب لا تأكل التاريخ، ولا تتعالج بالآثار، ولا تسكن في المتاحف.
الإنسان المصري اليوم لا يبحث عن "هيبة معمارية"، بل عن كرامة معيشية، وعن حكومة تعترف بهمومه لا تستخف بها.
https://www.youtube.com/watch?v=XwjmmoAxqtQ
في فيديو السيسي، تظهر لغة الجسد الواثقة، والحديث عن مصر "القديمة" كأنها ميراث يبرر إخفاق الحاضر. لكن ما لا يقال في الفيديو هو أن هذا المتحف تم بناؤه في ظل سياسة تقشف على الفقراء فقط، واقتصاد منهار، وسلطة تُراكم الديون الخارجية بلا توقف.
المواطن العادي الذي يُطلب منه الصبر والتقشف، يرى بأم عينه كيف تُصرف المليارات على مشاريع لا تصب في مصلحته، بل في مصلحة صورة الدولة أمام الكاميرات، والسياح، والمجتمع الدولي.
https://www.youtube.com/watch?v=YR_gNi2klZs
وفي مقابل هذه "الهدية العالمية"، يتساءل المصري العادي:
أين هدية مصر للمريض الذي لا يجد علاجًا؟
أين هديتها للشباب العاطل الذي لا يرى مستقبلًا؟
أين هديتها للمعتقل خلف القضبان لأنه كتب رأيًا؟
أين هديتها لأم لا تستطيع إطعام أطفالها؟
أين هديتها لمن فقد الأمل في الزواج، في السكن، في العمل، بل في الحياة؟
السيسي أراد أن يُرسل رسالة حضارية إلى الخارج، لكن الرسالة التي وصلت إلى الداخل كانت عكس ذلك تمامًا: أن النظام لا يرى أوجاع الناس، أو أنه يراها ويقرر تجاهلها. لقد اختار أن يُزيّن وجه مصر للعالم، وترك الجسد الحقيقي متعبًا، هشًا، مريضًا، يزداد فقرًا وصمتًا.
المفارقة القاسية أن المتحف نفسه، بكل ما يحمله من آثار الفراعنة والذهب والمومياوات، بات شاهدًا على واقع يفتقد إلى العدالة والرحمة. حضارة عمرها سبعة آلاف عام تُعرض في صالات مكيفة، بينما أبناء هذه الحضارة يقفون في طوابير الخبز، أو يُعتقلون لمجرد التعبير عن رأيهم.
إن المتاحف لا تُطعم الجياع، ولا تُداوي المرضى، ولا تُنقذ الغارقين في فقر الأحياء الشعبية. وإذا كان النظام قادرًا على تقديم "هدية للعالم"، فالأجدر به أن يُهدي شعبه بعضًا من الكرامة، وبعضًا من الحقوق، وبعضًا من الصدق.
في النهاية، الهدية الحقيقية التي ينتظرها المصريون ليست متحفًا، ولا صرحًا معماريًا، بل حياة تستحق أن تُعاش: حرية، عدالة، عمل، دواء، وسقف يأويهم من غدر الأيام.

