تتزايد الشهادات والشكاوى لِفلسطينيين خرجوا من جحيم غزة إلى مصر، ليجدوا أنفسهم في دائرة جديدة من القيود: إقامة قسرية داخل فنادق أو مساكن مُراقَبة، مصادرة وثائق، تعنّت بيروقراطي يجمّد الحياة اليومية، ومنعٌ فعلي للحركة والتنقّل.
خلفية المشهد أن عشرات الآلاف دخلوا مصر خلال الحرب، فيما تطلب السفارة الفلسطينية في القاهرة وضعًا قانونيًا مؤقتًا يُتيح لهم ترتيب حياتهم الأساسية، بعد أن وجد كثيرون أنفسهم بلا قدرة على العمل أو تسجيل الأبناء في المدارس أو حتى فتح حسابات مصرفية أو السفر، وهي مطالب إنسانية قبل أن تكون سياسية.
تفاصيل الشكاوى: إقامة قسرية ومصادرة جوازات ومنع تنقّل
تفيد تقارير ميدانية وحقوقية بأن نموذج “الاحتجاز الناعم” ظهر في أكثر من حالة: مجموعات أُبقِيَ عليها داخل فنادق تحت رقابة أمنية مع تقييد التواصل أو الحركة، وأُبلِغ بعضهم بتسليم الجوازات والانتظار “لحين البتّ في أوضاعهم”.
وقد وثّقت منصّة “منصة” (Manassa) واقعة مصادرة جوازات عشرات المتضامنين خلال طريقهم إلى سيناء، مع الإشارة إلى احتجاز 15 منهم داخل فنادق؛ كما نُقل عن وسائل أخرى تسكين مجموعات فلسطينية أُفرج عنها من سجون إسرائيل في فنادق بالقاهرة تحت إشراف أمني مصري.
هذه الوقائع — رغم اختلاف الفئات — تُظهر نمطًا واحدًا: التحكم الصارم في الحركة والإقامة عبر آلية “مبيت إجباري” بمسمى فندقي.
السياق الأوسع يُظهر سياسة أشمل لتقييد التنقّل: من منع أو ترحيل المشاركين في مسيرات داعمة لغزة، إلى تشديدات على الوصول إلى مناطق حساسة قرب رفح، مرورًا بمصادرة جوازات وإعادات قسرية من المطارات.
وثّقت بذلك وكالات كبرى مثل رويترز ووكالة أسوشييتد برس، فضلًا عن تقارير “العفو الدولية” التي طالبت بالإفراج الفوري عن المحتجزين بسبب التعبير السلمي عن التضامن.
سوء معاملة وبيروقراطية تُجمّد الحياة اليومية
على المستوى الإنساني، تَصف تقارير ميدانية حياة آلاف الفلسطينيين في مصر بأنها “مُعلّقة”: لا عمل نظامي، صعوبات في التسجيل المدرسي والرعاية الصحية، وانعدام وضوح قانوني لسنوات الإقامة.
طالبت السفارة الفلسطينية بوضع إقامات مؤقتة لنحو 100 ألف من أبناء غزة دخلوا أثناء الحرب، غير أن إجراءات الإقامة والرسوم المُتصاعدة تجعل التسوية فوق طاقة كثير من العائلات. كما رصدت تقارير مصرية مستقلة زيادات كبيرة في رسوم تجديد الإقامة وغرامات التأخر، ما يضيف طبقة اقتصادية خانقة فوق القيود الأمنية.
وفي الجانب الصحي، وثّقت منظمات دولية حالات مرضى قادمين من غزة ظلّوا في مستشفيات شمال سيناء والقاهرة وسط بطء شديد في تحويلات علاجية إلى دول وعدت بالاستقبال ثم تباطأت في التنفيذ.
ويتقاطع البعد الإنساني مع مسار مالي موازٍ: تحقيقات دولية عديدة وثّقت “رسوم تنسيق” باهظة لعبور رفح عبر وسطاء وشركات مرتبطة بنفوذ محلي، وصلت — وفق شهادات — إلى آلاف الدولارات للفرد.
بالنسبة لعائلات منهَكة، هذه التكلفة تمثل استنزافًا ماديًا يُفاقم شعورهم بأن حركتهم وحقوقهم الأساسية صارت رهينة بوابات ورسوم وبطء إداري لا ينتهي.
لماذا تُعاقِب السلطةُ هؤلاء؟ قراءة في دوافع السيسي
ما يجري ليس “إدارة أزمة” كما تزعم الحكومة، بل عقاب جماعي يرعاه السيسي ضد الفلسطينيين الذين فرّوا من جحيم الحرب.
فالنظام الذي يتاجر بورقة “دعم غزة” أمام الكاميرات هو نفسه الذي يحتجز أبناءها في غرف مغلقة، يصادر جوازاتهم، ويمنعهم من أبسط حقوقهم في الحركة والعمل والعلاج.
إن ما تمارسه أجهزة الأمن المصرية ليس سوى سياسة إذلال ممنهجة تهدف إلى ترك الفلسطيني يشعر أنه “ضيف غير مرغوب فيه”، وأن وجوده مرهون برضا السلطة وابتزازها المالي والأمني.
السيسي لا يريد لهؤلاء المهجّرين أن يعيشوا بكرامة، بل يريدهم أداة لتلميع صورته الخارجية أمام العالم باعتباره “حارس الحدود”، بينما يمارس داخل البلاد أقصى درجات القمع والإهانة.
هو لا يكتفي بسجن المصريين المعارضين، بل يوسّع القفص ليشمل اللاجئين الفارين من الحرب، محوِّلاً مصر إلى سجن كبير لا فرق فيه بين مواطن وضيف.
تلك سياسة متعمدة لا تنبع من الخوف الأمني كما يروَّج، بل من عقلية انتقامية ترى في كل ضحية فرصة للابتزاز وكل مأساة وسيلة للسيطرة.
إن السيسي الذي أغلق معبر رفح أكثر مما فتحه، وأدار ظهره لصرخات الجرحى والنساء والأطفال، يواصل اليوم معاقبة الناجين وكأن ذنبهم أنهم لم يموتوا تحت القصف. فباسمه تُمنع الحركة، وتُصادر الحرية، ويُحتجز الأبرياء في فنادق أشبه بالمعتقلات.
وما بين الشعارات التي يرفعها النظام عن “الأمن القومي” وواقع القهر الميداني، تتضح الحقيقة: نظام يخاف من إنسان حر، حتى لو كان لاجئًا أعزل.
وفي الأخير فإن عائلات فلسطينية في مصر من حصار ناعم بأدوات صلبة: إقامة مُقيَّدة داخل فنادق أو مساكن مُراقَبة، مصادرة وثائق، منع حركة، وجدار بيروقراطي ومالي يسدّ منافذ الحياة الطبيعية.
وفيما تُعلن القاهرة رفضَها التهجير الدائم، تُدير أزمة إنسانية حسّاسة بمنطق أمني تفاوضي يقدّم الاستقرار والصورة على حساب كرامة أناسٍ خرجوا من حرب مدمّرة إلى انتظار طويل في “غرف مغلقة”.
جوهر مطلبهم واضح: اعتراف قانوني مؤقّت يتيح التعليم والعمل والعلاج والتنقّل، بلا إذلال أو اتجار بمعاناتهم. أما السلطة، فتبدو — حتى الآن — متمسكة بقبضتها على المفاتيح كافة.

