شهدت قرية نزلة جلف التابعة لمركز بني مزار بمحافظة المنيا، يوم الجمعة الماضية، جلسة تحكيم عرفي انتهت بقرار يقضي بتهجير أسرة مسيحية من القرية وتغريمها مليون جنيه، على خلفية اتهام نجلها بخطف فتاة مسلمة، في واقعة أثارت جدلًا واسعًا حول استمرار اللجوء إلى الأعراف القبلية لحل النزاعات الطائفية بعيدًا عن مظلة القانون.
القرار الذي أصدره مجلس تحكيم مكوَّن من 13 عضوًا، جاء بعد أحداث عنف شهدتها القرية إثر انتشار مقطع فيديو يوثّق رشقًا لمنازل المسيحيين وحرقًا لمحتويات أراضٍ زراعية تخصهم، فيما تصاعدت المطالب الحقوقية والبرلمانية بضرورة فتح تحقيق عاجل في الواقعة ومحاسبة المتورطين في الاعتداءات.
من الاتهام إلى التهجير
تبدأ القصة – بحسب رواية محمد الشاروني، أحد المحكمين العرفيين المشاركين في الجلسة – عندما اتُهم شاب مسيحي بنقل فتاة مسلمة إلى منزله بعد أن أُغمي عليها داخل محل بقالة تمتلكه أسرتها، بدلًا من طلب المساعدة.
ويقول الشاروني: "الواقعة بدأت عندما أُغمي على الفتاة في المحل، فحملها الشاب إلى بيته دون علم أهلها، ثم أنكر وجودها حين سألوا عنها، إلى أن أرشدهم أحد الجيران فوجدوا الفتاة مغمى عليها داخل المنزل".
وعلى الرغم من أن الكشف الطبي أثبت أن الفتاة "عذراء ولم تتعرض لأي سوء"، إلا أن "إنكار أسرة الشاب لوجودها" كان كافيًا لإشعال فتيل الغضب داخل القرية، بحسب الشاروني، الذي أضاف أن قرار التهجير جاء من باب "درء المفاسد"، مؤكدًا أن بقاء الشاب كان سيعرض حياته للخطر.
ورغم أن منطوق القرار الذي تلي في الجلسة لم يتضمن نصًا صريحًا بالتهجير، إلا أن تصريحات المحكمين أوضحت أن الشاب أُلزم بمغادرة القرية فورًا، ومنحت أسرته مهلة خمس سنوات لترتيب أوضاعها قبل الرحيل النهائي. كما فُرضت غرامة مالية قدرها مليون جنيه كـ"دية عرفية" لأهل الفتاة، وهو مبلغ اعتبره حقوقيون "تعسفيًا وغير قانوني".
جدل واسع وتشكيك في الرواية
الواقعة أثارت ردود فعل قوية، إذ شكك الباحث الحقوقي إسحق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في منطقية القصة من الأساس، متسائلًا: "إذا كانت القضية أمام النيابة، فلماذا تُفرض غرامة مالية بمليون جنيه؟ وإذا كان الشاب متهمًا فعلاً، فمكانه القضاء لا التهجير؟"
وأشار إبراهيم إلى أن فرض مثل هذه العقوبات الجماعية على أسرة كاملة استنادًا إلى اتهامات غير مثبتة يُعد انتهاكًا صارخًا لمبدأ المواطنة والمساواة أمام القانون، مضيفًا أن "القصة تحمل بصمات النمط المعتاد في قضايا التوتر الطائفي، حيث تُقدَّم رواية أهل الفتاة كحقيقة مطلقة، بينما تُهمَّش رواية الطرف المسيحي".
ووصف الباحث ما حدث بأنه "فُجر في الخصومة"، موضحًا أن أخطر ما في الأمر هو الرسالة التي تبعثها هذه الجلسة إلى المجتمع: "تمت معاقبة الشاب وأسْرته فقط لأن فتاة مسلمة دخلت بيته. هذه سابقة خطيرة ستدمر العلاقات الإنسانية في القرى، حيث كان المسلم والمسيحي يزور أحدهما الآخر دون خوف أو شك".
المحكم العرفي هاني الباسل، الذي شارك في إصدار القرار، دافع عن موقف المجلس قائلًا: "البلد كانت على وشك الانفجار، وكان لازم نحتوي الغضب. التحكيم هدفه التهدئة مش العقاب. أهم حاجة إن الناس تطلع من الأزمة بسلام".
لكنه في الوقت نفسه أقرّ بأن مبلغ الغرامة المالية "شهد نقاشات طويلة"، بدأت من 400 ألف جنيه ووصلت إلى مليون ونصف، قبل أن تُخفض "كرامةً لجَد الشاب" الذي أبدى أسفه وتعاطفه في الجلسة.
أصوات تطالب بالتحقيق وإنهاء التحكيم الطائفي
النائبة البرلمانية السابقة مها عبد الناصر كانت من أوائل من نددوا بالواقعة، ووصفتها بأنها "جريمة مضاعفة"، مشيرة إلى أن ما جرى "ليس حادثًا فرديًا بل حلقة جديدة في سلسلة من الاعتداءات المتكررة ضد الأقباط في صعيد مصر".
وطالبت النائبة بفتح تحقيق قضائي عاجل، معتبرة أن استمرار اللجوء للجلسات العرفية "يكرّس الإفلات من العقاب ويضعف هيبة الدولة".
كما دعت عبد الناصر إلى تفعيل مفوضية مكافحة التمييز المنصوص عليها في الدستور، قائلة إن "تأجيل إنشاء هذه المفوضية منذ عامين جعل المجتمع بلا أداة مؤسسية لمواجهة التعصب والكراهية"، مؤكدة أن "القضية في المنيا ليست فقط قانونية، بل ثقافية واجتماعية بالدرجة الأولى".
جذور الأزمة: بين الدولة والعرف
تكرار مثل هذه الوقائع في المنيا وغيرها من محافظات الصعيد يعيد طرح الأسئلة القديمة حول غياب الدولة في مواجهة النزاعات الطائفية، حيث يُترك الأمر للأعراف التي تُطبّق بمنطق "التراضي الظاهري" بينما تكرّس في جوهرها التمييز بين المواطنين.
فبدلًا من إعمال القانون، يجري اللجوء إلى ما يُعرف بـ"المجالس العرفية"، التي تضم شيوخًا وكبار عائلات ورجال أمن محليين، يتولون التوصل إلى "حلول سلمية" تحفظ الأمن مؤقتًا لكنها تزرع بذور انقسام عميق، كما يرى مراقبون.
يقول الباحث إسحق إبراهيم في هذا السياق: "القضية الحقيقية ليست في حادثة المنيا فقط، بل في غياب العدالة المؤسسية. عندما يغيب القانون، يحضر العرف، وحين يحضر العرف تُغيب العدالة."

