في مصر اليوم، تُروَّج لدولة «على الهامش» تحمل مشروعات مبهرة، وسفراً فخمًا، ومؤتمرات تُضيء المدن، بينما المواطن داخل موازنة الدولة «المديونة» يعاني من ضريبةٍ تلو الأخرى، وغلاءً يفوق طاقته، وانقطاعًا للخدمات. الحديث هنا ليس مجرد نقد، بل تسجيلٌ لواحد من أكبر مفارقات الواقع: حين تكون الدولة خارج الموازنة هي صاحبة الحفلات والقِصور والمواكب، فيما الدولة «داخلها» تتحمّل كاهل المواطن وتُحمّله تبعاتها.

 

حجم البذخ في مؤتمرات «الدولة الخارجة»

 

من أحدث الأمثلة ما تشهده مدن مثل القاهرة والساحل أو العاصمة الإدارية من مؤتمرات دولية ضخمة، احتفالات، ضيوفاً من حول العالم، حفلات أمام عدسات الكاميرات. أبرزها ما يتعلّق بـ المتحف المصري الكبير (GEM) قرب أهرامات الجيزة. فوفق بيانات رسمية وغير رسمية، فإن تكلفة إنشاء المتحف تتجاوز مليار دولار، وبحسب تصريحات مدير المتحف فإن التكلفة بلغت نحو 1.2 مليار دولار، منها حوالي 750 مليون دولار في صورة قروض.

 

وعندما سُئل رئيس الوزراء المصري في مارس 2025 عن تكلفة الافتتاح، قال إن الدولة «لن تتحمّل أي مصروفات من الموازنة» وأن الفعالية سيتم تمويلها بواسطة رعاة وتسويق.

 

إلا أن هذا الإعلان لا يُغيّر الحقيقة الأساسية: الموجودة هي عملية ضخٍّ إعلامي، احتفالات، إضاءة، مواكب ضخمة، ضيوف دوليين، وعلى ما يبدو مواكب إعلامٍ تمهيدية لعرض الصورة «التقدمية» لمصر.

 

من أين أُخذت الأموال التي خارج الموازنة؟

 

حين تُقال عبارة «لن تتحمّل الدولة موازنتها»، فهذا يعني أن التمويل يأتي من مصادر غير تقليدية: رعايات شركات، تمويلات أجنبية، قروض ومساهمات خاصة. لكن ما لا يُقال غالبًا هو أن هذا التمويل غالبًا ما يُروّج كمنحة أو كاستثمار سياحي، بينما تبقى الشروط، الفوائد، وتأثيراته على موازنة الدولة مفتوحة للتأويل. وفي مجتمعٍ يعاني من زيادة المتطلبات المالية: ديون خارجية، عجز في الموازنة، خدمات عامّة متداعية، يصبح الإنفاق الهائل على المناسبات اللامعة «نداء استهلاكي للاستعراض» أكثر من كونه استثمارًا حقيقيًا للمواطن.

 

لماذا هذا البُعد الاستعراضِي مؤذي؟

 

أولًا: لأنه يتحوّل إلى تصويرٍ لواقعين متوازيين: مصر «البرّا» حيث الحفلات، ومصر «جوا» حيث التحميل على المواطن. المواطن يشاهد أن الدولة تنفق خارج موازنتها على احتفالات ضخمة، وفي الوقت ذاته يطلب منه تحمل زيادات الضرائب، السلف، الجبايات، والغلاء.

 

ثانيًا: هذا الإنفاق لا يُترجم غالبًا إلى خدمات مباشرة أو تحسين معيشة للمواطنين، بل إلى صور تلفزيونية أو صور انستجرامية تحمل اسم «إنجاز». المواطن يظل ينقصه دواء، سكن، فرص عمل، خدمات جيدة، بينما تُفتتح صالات كبيرة بتمويلات ضخمة.

 

ثالثًا: العبرة ليست فقط في حجم المبلغ، بل في الأولوية. عندما تُختار احتفالات ضخمة كأولوية، بينما الصحة والتعليم والبنى التحتية الروتينية تُهمّش، فهذا يعكس قصورًا في الحوكمة وتوزيع الأولويات.

 

كم قد يكلف حفل افتتاح المتحف؟

 

إذا أخذنا أن بناء المتحف نفسه تجاوز مليار دولار، ومنطق الإنفاق على افتتاحه بهذا الحجم الضخم، يمكن تقدير أن حفل الافتتاح – بما يشمل مواكب، إضاءة، ضيوف دوليين، إقامة، تنقلات، فعاليات متعددة الأيام – قد يصل إلى عشرات أو مئات الملايين من الجنيهات أو الدولارات خارج موازنة الدولة. رغم عدم وجود رقم رسمي موثّق، إلا أن حجم المشروع والجهد الإعلامي المُعلن يوحي بأن “حفل الافتتاح” سيؤمِّن تتويجًا بصريًا وثقافيًا كبيرًا.

 

والنقطة المهمة: إذا كانت الدولة ليست «مستعدة» لتحمّل تكلفة الحفل من الموازنة، فهذا يعني أن التمويل يأتي من مصادر «خارج الضريبة والرقابة العادية»، مما يفتح تساؤلات حول الشفافية، أولويات الإنفاق، والأثر الطويل الأمد على الدين أو تخصيص الموارد.

 

ماذا يعاني المواطن أثناء كل هذا؟

 

– المواطن يدفع ضرائب أعباء: ورسوم، وجبايات، وغلاء، وسلف.

 

– المواطن يرى أن جزءًا من أمواله يُستخدم لإنفاق يُخدّم الصورة لا الخدمة.

 

– المواطن لا يشعر أن هذه الاستعراضات تنعكس عليه بتحصيل حقوقه أو تحسّن معيشته.

 

– المواطن يعيش في دولة مديونة، لكنه يشاهد أن جزءًا كبيرًا من الإنفاق يتم خارج إطار الرقابة والموازنة العادية.

 

الخلاصة أن ما نشهده ليس مجرد مشروعًا كبيرًا أو متحفًا عظيمًا؛ ما نشهده هو اختيار أولويات. الدولة التي تُعلن أنها مديونة، وتحمّل المواطن فوق طاقته، تستثمر موجبًا في “حفل استعراض” يُقدَّم للعالم، بينما وظيفة الدولة الأساسية – تقديم الخدمات، حماية المواطن، تحسين معيشته – تبدو ثانوية. استعراض القوة والإنجاز من الخارج لا يطعم الجياع، ولا يشفي المرضى، ولا يوفر فرص العمل. وإن كان لابد من تمويل خارج الموازنة، فالمطلوب أن يُعلن بشفافية، وأن يُربط بتحسّن حقيقي في معيشة المواطن، لا بأن يكون “مفرقعة” إعلامية. البلد لا تُبنى بالعرض، بل بالعدالة، الكرامة، والمواطن الذي يعيشها.