يشهد قطاع النقل الثقيل في مصر أزمة خانقة تهدد مصدر رزق مئات الآلاف من السائقين بعد تشديد تطبيق ما يُعرف بـ"البون المائي" أو بون الحمولة على سيارات النقل التي تحمل نواتج الحفر والمخلفات، مما أدى إلى سحب آلاف السيارات من الطرق وفرض غرامات باهظة تجاوزت 30 ألف جنيه على كل سائق.
ورغم أن البون المائي يُفترض أن يكون وسيلة لتنظيم حركة الشاحنات القادمة من المحاجر، إلا أن تطبيقه العشوائي على سيارات تنقل نواتج الحفر إلى المقالب الرسمية جعل السائقين يعيشون مأساة اقتصادية، إذ توقفت أعمالهم وتراكمت عليهم الديون وسط تجاهل حكومي تام لمطالبهم.
أزمة “البون المائي”... قانون بلا منطق
يُستخدم البون المائي كوثيقة رسمية تثبت مصدر الحمولة التي تنقلها سيارات النقل الثقيل من المحاجر والمناجم، بهدف الحد من سرقة خامات الدولة وتنظيم النقل. غير أن الجهات التنفيذية بدأت في الأشهر الأخيرة تطبيقه على جميع السيارات المحمّلة بالرمال أو الأتربة أو نواتج الحفر، حتى تلك التي تعمل في نقل المخلفات من مواقع البناء إلى المقالب الرسمية.
يقول السائق أحمد عبد الموجود من القاهرة: "إحنا بنشتغل في نقل نواتج الحفر من مواقع شركات مقاولات، يعني مش سرقة رمل ولا مواد خام. ومع ذلك بيوقفونا على الطرق ويقولوا فين البون المائي. طب أجيب بون منين وأنا مش طالع من محجر؟"
هذا الإجراء، بحسب السائقين، تسبب في شلل شبه تام لقطاع النقل الخاص، إذ لا يوجد نظام يمنح “بون مائي” لمخلفات الحفر والمشروعات، مما يعني أن كل سيارة تعمل في هذا المجال تُعتبر مخالفة بحكم القانون رغم شرعية عملها.
غرامات باهظة وقرارات تعسفية
السائق محمد بدوي من الشرقية يروي بمرارة: "كل مرة بنطلع على الطريق نتعرض للكمين، بيوقفونا ويعملوا محضر حمل بدون بون، الغرامة 30 ألف جنيه، وفيه ناس دفعت أكتر من مرة، يعني اللي بيكسبه في شهر يضيع في يوم."
ويضيف: "فيه زملاء عربياتهم اترفعت، وشركات المقاولات وقفت الشغل لأن العربيات مش قادرة تنقل الردم. إحنا بنخسر شغلنا وولادنا جعانة، ومفيش مسؤول سائل."
ويؤكد السائقون أن سيارات النقل التي تحمل نواتج الحفر تُنقل بتكليف رسمي من شركات مسجلة لدى المحليات أو الجهات التنفيذية، وغالبًا إلى مقالب تابعة للحكومة، ما يعني أن تطبيق الغرامات عليهم يعد ظلمًا بيّنًا.
نظام مشوّه يضر الاقتصاد
بحسب تقديرات نقابة النقل البري غير الرسمية، فإن عدد سيارات النقل المتضررة من أزمة البون المائي يقترب من مليون سيارة على مستوى الجمهورية، ما يعني أن الأزمة لا تمس السائقين فقط، بل تمتد إلى شركات المقاولات والبناء والتوريد، وتؤثر على حركة المشروعات القومية نفسها.
الخبير الاقتصادي رمزي البنا أوضح أن “توقف هذا العدد الهائل من السيارات عن العمل يعني خسارة يومية بملايين الجنيهات في قطاع النقل والمقاولات”، مضيفًا أن “الإجراء الحالي يضر أكثر مما ينفع، لأنه يعطل عجلة البناء ويعمّق الركود الاقتصادي في قطاعات حيوية”.
وأشار إلى أن “البون المائي لم يُصمم أساسًا لتنظيم نواتج الحفر أو المخلفات، بل لتنظيم نقل المواد الخام الطبيعية من المحاجر، لذلك يجب وضع ضوابط جديدة بديلة تناسب طبيعة عمل تلك السيارات”.
سائقون بلا مورد ولا صوت
تجمع عشرات السائقين في مناطق مختلفة، من السادس من أكتوبر إلى العاشر من رمضان والإسكندرية، احتجاجًا على سحب سياراتهم.
يقول السائق علاء شحاتة: "احنا مش بلطجية ولا حرامية، احنا ناس بتشتغل بالحلال. نقل نواتج الحفر ده شغلنا اللي بنأكل منه عيالنا. دلوقتي مفيش شغل، والعربية واقفة ومش عارفين نسدد أقساطها."
ويضيف: "اللي بيحصل ده خراب بيوت. لازم الحكومة تفرّق بين اللي بينقل رمل من محجر بدون تصريح، واللي بينقل ناتج حفر من مشروع رسمي. الاتنين مش زي بعض."
العديد من السائقين أشاروا إلى أن الحملات الأمنية تُنفذ دون تنسيق مع وزارة النقل أو المحليات، وأن الغرامات تتضاعف في كل مرة يخرج فيها السائق للعمل، مما جعل البعض يقرر بيع سيارته أو ترك المهنة نهائيًا.
غياب الحلول وتجاهل الحكومة
حتى الآن، لم يصدر أي قرار رسمي لتوضيح آلية منح “بون بديل” أو استثناء سيارات نواتج الحفر من هذا النظام، رغم مطالبات النقابات والسائقين.
ويقول مصطفى عبد الغني، عضو نقابة النقل البري، إن “الحكومة تتعامل مع الأزمة بصمت وكأنها لا تراها. هناك مئات المحاضر تُحرر يوميًا، وأُسر فقدت مصدر دخلها الوحيد”.
ويضيف: “البون المائي تحوّل من وسيلة للرقابة إلى أداة للجباية. المطلوب الآن فتح حوار جاد مع السائقين وإيجاد صيغة قانونية تضمن حق الدولة دون سحق الفقراء.”
وأخيرا فأزمة البون المائي تكشف فشلًا إداريًا واضحًا في إدارة ملف النقل، حيث تُطبّق القوانين بشكل أعمى دون دراسة لطبيعة العمل على الأرض.
وبينما تُرفع الشعارات عن “التنمية والبناء”، تُشلّ حركة النقل ويُطرد العمال من رزقهم بسبب قرارات بيروقراطية لا ترى الإنسان.
إن إنقاذ قطاع النقل لا يكون بالقبضة الأمنية بل بالحكمة والإدارة الرشيدة. فالسائق الذي يكدّ على الطريق لا يستحق الغرامة بل الاحترام، والاقتصاد الوطني لن يقوم على أوراق “بون مائي”، بل على سياسات عادلة تحمي العامل والمواطن معًا.

