في مشهد يتكرر في كل قطاع، لكن تأثيره هذه المرة يهدد الأمن الغذائي مباشرة، يشهد القطاع الزراعي في مصر واحدة من أسوأ أزماته بعد القرار الأخير برفع أسعار الوقود، إذ أدى القرار فورًا إلى قفزة غير مسبوقة في أسعار الأسمدة، التي ارتفعت في السوق الحرة بنسبة تتجاوز 20% خلال أيام، لتصبح الزراعة، بالنسبة لآلاف الفلاحين، مشروعًا خاسرًا لا جدوى منه.

حكومة الانقلاب، كما يصفها مراقبون، مضت في طريقها المعتاد: فرض قرارات كارثية على حساب الفئات الأضعف، دون تقديم أي حلول أو شبكات أمان اجتماعي. وفي قلب العاصفة هذه المرة: الفلاح المصري، الذي يواجه الدولار، والوقود، والأسمدة، وتكاليف الزراعة، دون حماية، أو دعم، أو حتى اهتمام.

 

السماد يتحول إلى سلعة "رفاهية"

في أقل من أسبوع، قفز سعر شيكارة السماد في السوق الحرة إلى ما يتجاوز 1300 جنيه، بينما وصل سعر طن نترات النشادر إلى 24 ألف جنيه، وطن اليوريا إلى 25 ألفًا، وسط عجز الجمعيات الزراعية عن توفير الكميات المدعومة، أو توزيعها بعدالة.

هذه الزيادات جعلت مئات الفلاحين في قرى الدلتا والصعيد يخفضون كميات التسميد لمحاصيلهم أو يتوقفون عن الزراعة مؤقتًا. والأخطر أن هناك حالات متزايدة من تبوير الأرض، بعد أن فاقت تكلفة الزراعة العائد منها، في ظل انهيار منظومة تسعير المحاصيل، وتغييب الدعم الفني والمالي.

 

أزمة مزمنة تُدار بعشوائية

وفقًا لتقرير مركز "حلول للسياسات البديلة"، فإن أسعار الأسمدة ارتفعت بنسبة 564% منذ 2015 وحتى الآن، مدفوعة بتحرير أسعار الوقود، وتعويم الجنيه، وتضخم تكاليف الشحن والاستيراد.

ومع أن الحكومة تتحدث عن دعم الأسمدة من خلال الجمعيات الزراعية، إلا أن الحصص لا تكفي سوى لـ30–40% من احتياجات الفلاحين، ما يدفع الباقين إلى السوق السوداء، حيث تتحكم المافيا الزراعية بأسعار الأسمدة المدعومة.

المثير للدهشة أن الحكومة لم تتدخل لضبط الأسواق أو مراقبة سلسلة التوزيع، وتركت الفلاحين وحدهم يواجهون تجارًا لا يعرفون سوى لغة الربح، وسط صمت وزاري مطبق.

 

أكثر من نصف مدخلات الزراعة.. مستوردة

المشكلة لا تقف عند السماد فقط. فوفق خبراء زراعيين، أكثر من 80% من مدخلات الزراعة مستوردة بالدولار، من التقاوي إلى المبيدات. وبالتالي، فإن أي هزة في سعر الدولار، أو زيادة في أسعار الطاقة، تُترجم مباشرة إلى قفزات في تكلفة الإنتاج.

لكن الحكومة لم تقدّم أي خطة استراتيجية لتقليل الاعتماد على الواردات، أو دعم البدائل المحلية، أو حتى تشجيع تصنيع الأسمدة محليًا. وبدلًا من ذلك، اختارت الطريق الأسهل: تحميل الفلاح التكلفة كاملة، والحديث عن "ظروف عالمية" لتبرير فشلها.

 

مزارع تحت الحصار.. ومائدة مهددة

الأزمة الحالية لا تضرب الفلاح وحده، بل تمتد إلى كل بيت مصري.

فارتفاع تكلفة الأسمدة يعني تلقائيًا تراجع الإنتاج، وضعف الجودة، وارتفاع أسعار المحاصيل الأساسية.

  • سعر كيلو البطاطس ارتفع بنسبة 30% في أقل من شهر.
  • البصل قفز إلى مستويات غير مسبوقة.
  • محاصيل الفول والطماطم تراجعت مساحاتها المزروعة، بسبب غياب العائد الاقتصادي.

هذه المؤشرات لا تبشر بخير، بل تؤكد أن مصر تدخل نفقًا غذائيًا مظلمًا، في الوقت الذي تكتفي فيه الحكومة بمؤتمرات دعائية عن "النهضة الزراعية".

 

الزراعة في آخر جدول الأولويات

اللافت أن الحكومة لا تملك خطة واضحة أو شفافة لإنقاذ ما تبقى من القطاع الزراعي. لا دعم حقيقي، ولا رقابة، ولا تمويل ميسر، ولا حماية من السوق السوداء، ولا تأمين لسلاسل التوريد.
وبينما تُضخ المليارات في العاصمة الإدارية والقطارات الفاخرة، يموت الفلاح في الحقل، صامتًا، محاصرًا بالدين والعجز واليأس.

وأخيرا فإنه لا أمن غذائي بدون فلاح حي

إذا كانت الدولة جادة في تأمين غذاء شعبها، فالأولوية يجب أن تكون للفلاح، لا للمشروع العقاري.
فاستمرار تجاهل الأزمة الحالية، والاعتماد على الاستيراد كحل، هو انتحار اقتصادي وسياسي، سيدفع ثمنه الجميع.

الأسمدة ليست سلعة، والزراعة ليست ترفًا، والفلاح ليس عبئًا. هؤلاء هم خط الدفاع الأول عن أمن مصر الغذائي، وإنه من العار أن يُتركوا في مواجهة الدولار والديون وحدهم، بينما تنفق الدولة على مشاريع لا تُطعم أحدًا.