برلمان بلا تمثيل.. بل أداة حكم

 

لم يعد البرلمان المصري ـ بنسختيه التشريعية (النواب) والاستشارية (الشيوخ) ـ يمثل الإرادة الشعبية أو يعبّر عن التعددية السياسية. بل بات - كما يُجمع العديد من المحللين والمراقبين - أداة مهيأة بالكامل لخدمة السلطة التنفيذية، وتمرير سياساتها، وتأمين شبكة النفوذ السياسي والاقتصادي للنظام القائم.

 

في السنوات الأخيرة، تحوّل البرلمان من مؤسسة رقابية إلى واجهة شرعية لتمديد الحكم، وتحصين رجال الأعمال، وتمرير تشريعات فوقية، بينما جرى تهميش فئة "الصامتين" ـ وهم الأغلبية الساحقة من المصريين ـ الذين باتوا خارج دائرة التأثير، بعد أن أُغلق المشهد السياسي بالكامل أمام أي قوى معارضة حقيقية.

 

هندسة برلمانية بأدوات أمنية

 

يرى نشطاء وسياسيون أن ما جرى في تشكيل مجلسي النواب والشيوخ منذ 2015 وحتى اليوم لم يكن انتخابات حرة، بل عملية هندسة كاملة تشارك فيها الأجهزة الأمنية، وأحزاب موالية صنعت خصيصًا لملء الفراغ السياسي.

 

عند استحداث مجلس الشيوخ في 2019، روّجت الدولة له باعتباره "عودة للتعددية"، بينما تم تخصيص غالبية مقاعده بالتعيين أو عبر قوائم مغلقة محسومة مسبقًا. وفي انتخابات مجلس النواب، تكررت ذات الصيغة: رشاوى سياسية، إقصاء ممنهج، وقوائم مفصلة على مقاس النظام.

 

قوائم "من أجل مصر" الموالية للنظام استحوذت على المقاعد الأساسية، بينما جرى استبعاد المعارضة، وتفصيل الدوائر بما يضمن فوز وجوه بعينها، في استنساخ فجّ لمشهد حزبي صوري لا يعكس الواقع الشعبي.

 

المال السياسي يشوه التمثيل

 

بحسب تقارير وتحقيقات إعلامية، تحوّلت العضوية في البرلمانين إلى سلعة استثمارية تُباع وتشترى بملايين الجنيهات. حيث تجاوزت أسعار مقاعد مجلس الشيوخ 50 مليون جنيه، ومجلس النواب 70 مليونًا، وفقًا لمصادر حزبية ومراقبين.

 

هذا الواقع خلق طبقة من "النواب المستثمرين" الذين يدخلون البرلمان من أجل الحصانة والمصالح والصفقات، لا من أجل الرقابة أو التشريع. وقد أفرز هذا النوع من الترشيحات نوابًا بلا خلفيات قانونية أو مجتمعية، بل مجرد رجال أعمال أو وجوه قريبة من الأجهزة، يتم تدويرهم داخل المؤسسات النيابية.

 

برلمان التعديل والتمديد لا الإصلاح

 

تجلّت خطورة هذا التشكيل الموجّه حين تم تمرير تعديلات دستورية عام 2019 سمحت للسيسي بالبقاء في السلطة حتى عام 2030، في خطوة وصفها معارضون بأنها "عودة للعهد الاستبدادي"، وإنهاء رسمي لأي أمل في تداول السلطة أو إصلاح ديمقراطي.

 

واعتبر د. محمد البرادعي أن تلك التعديلات تمثل "إهانة لشعب قام بثورة لينتزع حريته"، بينما رأى الحقوقي خالد علي والكاتب علاء الأسواني أنها تمثّل استكمالًا لتحويل الدولة إلى نظام حكم فردي مغلق، تحت غطاء قانوني مزيف.

 

فئة الصامتين: بين التهميش واللامبالاة

 

في ظل هذه الهيمنة المطلقة، بات المصري العادي يشعر بانفصال تام عن البرلمان، الذي لم يعد يمثل احتياجاته أو همومه اليومية. وبدلاً من أن يكون أداة رقابة، تحول البرلمان إلى غرفة مغلقة لتمرير القوانين بلا نقاش، وضمان مصالح النخبة الاقتصادية.

 

يرى كثير من المواطنين أن أصواتهم لا معنى لها في انتخابات محسومة، وأن مشهد "صناديق الطعام والرشاوى الرمزية" بات أكثر تعبيرًا عن العملية الانتخابية من أي برنامج سياسي أو رؤية.

 

ساحة مغلقة أمام النقاش العام

 

لا يملك الإعلام المصري المساحة لمناقشة هذه الحقائق. كل أشكال النقد لممارسات البرلمان ومجلس الشيوخ تُحاصر، تُمنع أو تُهمّش. أما مواقع التواصل الاجتماعي، فقد باتت المنفذ الوحيد الذي يُعبّر فيه المصريون عن سخطهم، وسط تجاهل تام من مؤسسات الدولة.

 

وقد أصدرت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" بيانات أدانت فيها القوانين المقيدة للحريات وتفصيل البرلمان لخدمة الحاكم، معتبرة ما يجري نموذجًا لتقويض الديمقراطية بالوسائل القانونية الشكلية.

 

وأخيرًا.. فان المستقبل مُفرَّغ من السياسة

 

إن البرلمانين المصريين ـ النواب والشيوخ ـ اللذين تم تشكيلهما عبر هندسة صارمة، يمثلان موتًا بطيئًا للحياة السياسية، وتحويلًا متعمدًا للمواطن إلى مجرد مُتلقٍّ للقرارات، لا شريكًا في صياغتها.

 

تعديلات الدستور، والتفاف القوانين حول الحقوق، واستثمار البرلمان في الامتيازات، كلها تؤكد أن ما يُبنى ليس دولة قانون، بل نظام ولاء، حيث تكون الحصانة مكافأة، والتشريع أداة لخدمة المصالح، بينما يدفع المواطن الثمن: غلاءً، قمعًا، وتهميشًا بلا نهاية.