في مشهد أثار جدلاً واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، نظمت إحدى المدارس بمحافظة أسيوط احتفالًا بمناسبة افتتاح المتحف المصري الكبير، حيث ارتدى الطلاب أزياء فرعونية تقليدية، وقدموا عروضًا رمزية تعبر عن “العظمة المصرية القديمة”.

إلا أن الجدل لم يشتعل بسبب الفعالية ذاتها، بل بسبب كلمة المحافظ خلال الاحتفال حين دعا الطلاب إلى "الاقتداء بقائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي في بناء المتاحف والمصانع"، معتبراً أنه “رمز للنهضة والتنمية”، فأي مصانع يقصد المحافظ؟

هل هي تلك التي أُغلقت وشُرِّد عمالها؟ أم تلك المشاريع التي لم تُكمل عامها الأول قبل أن تُعلن إفلاسها؟
https://www.facebook.com/reel/4152763238269526

 

تفاصيل الاحتفال: فخامة شكلية وسط فقر المدارس

الاحتفال الذي نظمته المدرسة جاء على الطريقة “الفرعونية الحديثة”، حيث ارتدى الطلاب ملابس ذهبية وأغطية رأس مستوحاة من ملوك مصر القديمة، وزُيّنت القاعة بعبارات تمجّد “العصر الذهبي الجديد”.

ووقف المحافظ على المنصة يتحدث بحماسة عن “النهضة العمرانية والمتحف المصري الكبير الذي أذهل العالم”، مؤكداً أن “السيسي يكتب التاريخ من جديد ويجب أن يقتدي به الجيل الجديد في حب الوطن وبناء المصانع والمتاحف”.

لكن المفارقة كانت صارخة: ففي حين ينفق مسؤولو المحافظات مبالغ طائلة على حفلات “المظاهر الوطنية”، لا تزال مدارس الصعيد تعاني من نقص المقاعد والسبورات والبنية التحتية، ويجلس بعض التلاميذ على الأرض لعدم وجود تجهيزات كافية.

وفي المقابل، تبدو هذه الفعاليات أشبه بمحاولات تلميع سياسي أكثر من كونها نشاطاً تربوياً أو ثقافياً.
https://www.youtube.com/shorts/FwgnVhMsxWU

 

مصانع مغلقة وعمال مشردون: أي نهضة صناعية؟

حين دعا المحافظ الطلاب إلى “الاقتداء بالسيسي في بناء المصانع”، تجاهل الواقع الملموس في السوق المصري.

فبحسب بيانات اتحاد الصناعات المصرية وتقارير لجنة العدالة العمالية، أُغلِق خلال السنوات الأخيرة آلاف المصانع الصغيرة والمتوسطة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وصعوبة الحصول على المواد الخام، وغياب الدعم الحكومي الحقيقي.

في محافظات مثل الغربية والشرقية والإسكندرية، نظّم الاف العمال وقفات احتجاجية للمطالبة بصرف رواتبهم المتأخرة أو رفض قرارات فصلهم التعسفي.

كما انتشرت شكاوى من مصانع النسيج والحديد والكيماويات التي توقفت عن الإنتاج بسبب الأزمات الاقتصادية وغياب السيولة.

في هذا السياق، يرى مراقبون أن “الاقتداء بالسيسي في بناء المصانع” أصبح تعبيرًا رمزياً لا يستند إلى واقع فعلي؛ فالصناعة الوطنية التي كانت تمثل العمود الفقري للاقتصاد المصري تتراجع بسرعة أمام سياسات تُفضل الاستيراد على الإنتاج المحلي، وتمنح الامتيازات الكبرى لشركات تابعة للجيش أو مقربين من السلطة، بينما يُترك المستثمر الصغير يواجه الإفلاس وحده.

 

من “المتحف الكبير” إلى “المصانع الفنكوشية”

حديث المحافظ عن المتحف المصري الكبير باعتباره إنجازًا يستحق الاقتداء لم يكن مفاجئًا، لكن توظيفه كمثال في خطابٍ تربوي لطلابٍ يعيشون في واحدة من أفقر محافظات مصر كشف عن الفجوة الهائلة بين خطاب الدولة وواقع المواطنين.
https://www.youtube.com/watch?v=NPoIr8tED9Q

فبينما يُروَّج للمتحف كأعجوبة معمارية وكـ"هدية مصر للعالم"، يعيش آلاف المواطنين في أسيوط ومدن الصعيد بلا خدمات أساسية، ويكافحون من أجل الحصول على مياه شرب نظيفة أو فرص عمل كريمة.

أما في ملف “المصانع الفنكوشية”، فالمشهد لا يقل رمزية عن المتحف.
ففي حين تم الإعلان عن مشروعات كبرى كمدينة الأثاث بدمياط، ومصانع الغزل في المحلة، والمجمعات الصناعية في بني سويف والسادات، لم تحقق معظمها النتائج الموعودة.

بعضها توقف بعد أشهر قليلة من افتتاحه الرسمي، وبعضها يعمل بطاقات منخفضة جدًا لا تغطي حتى تكاليف التشغيل، ما جعل العمال يدفعون الثمن بفقدان وظائفهم.

 

نزع الملكيات.. من الصناعة إلى الزراعة

لم تقتصر الانتقادات على الجانب الصناعي فقط، بل امتدت إلى ملف “نزع الأراضي من مستصلحي الصحراء”، وهو الملف الذي زاد من غضب المستثمرين والمزارعين الصغار على حد سواء.

فمن خلال “جهاز مستقبل مصر”، جرى سحب مئات الأفدنة من مستثمرين ومزارعين بحجة “عدم الالتزام بخطط التنمية”، بينما أكد أصحاب الأراضي أنهم أنفقوا الملايين على استصلاحها قبل أن يتم تجريدهم منها بقرارات إدارية مفاجئة.

https://www.youtube.com/watch?v=CtYWUTCD0xc&t=1s

هذه السياسات أضعفت الثقة في بيئة الاستثمار، وأدت إلى هروب رؤوس الأموال المحلية والخارجية. فكيف يمكن الحديث عن “الاقتداء في بناء المصانع” بينما يتم التضييق على كل مبادرة خاصة أو مشروع إنتاجي خارج مظلة الدولة؟
وفي النهاية فدعوة محافظ أسيوط لطلاب المدارس للاقتداء بالسيسي في “بناء المصانع والمتاحف” تلخص أزمة الخطاب الرسمي في مصر اليوم: غياب الوعي بالواقع الاجتماعي، وانفصال الشعارات عن الحقائق الاقتصادية.

فبينما يعيش المصريون ارتفاع الأسعار، وتراجع فرص العمل، وتزايد معدلات الفقر، لا تزال السلطة تقدم “الإبهار البصري” على أنه تنمية، و”التمجيد الشخصي” على أنه وعي وطني.