أثار الطبيب والأكاديمي المصري الدكتور خالد عمارة جدلاً واسعًا بعد نشره تدوينة مطوّلة وصف فيها مشهد الاحتفالات الرسمية والشعبية بافتتاح المتحف المصري الكبير بأنه “تمثيلية للتفاخر بالماضي”، منتقدًا ما وصفه بـ“النفاق الجمعي” الذي يدفع الناس إلى الهروب من واقعهم المؤلم إلى وهم المجد القديم.
حديث عمارة لم يكن موجّهًا إلى العامة فحسب، بل جاء كصفعة مباشرة على وجه النظام المصري، الذي يستغل رموز التاريخ والحضارة لتلميع صورته وإخفاء الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتفاقم تحت حكم عبد الفتاح السيسي.
كلماته الصادمة فتحت بابًا واسعًا للنقاش حول أزمة الوعي والكرامة في مصر المعاصرة، بين إنجازات دعائية يتفاخر بها النظام، وواقع يومي يزداد فيه الفقر والفساد والبلطجة وانعدام الأمل.
مصر التي تفتخر بالأهرامات وتعيش بين القمامة
في نصّه اللاذع، شبّه عمارة الاحتفاء بالمتحف المصري الكبير وادّعاء الفخر بالماضي، بتفاخر شخص “عاطل في إنجلترا” بإنجازات إسحاق نيوتن، أو “مدمن أمريكي” بانتصارات الولايات المتحدة قبل ثمانين عامًا، أو “فقير في اليمن أو السودان” بحضارات سبأ أو كوش القديمة.
المعنى كان واضحًا: لا يحق لمجتمع يعيش في الانهيار والفوضى أن يتفاخر بمجد أجداده.
هذا التشبيه المرير أصاب قلب الحقيقة، فالنظام المصري — بحسب مراقبين — يستخدم التاريخ كوسيلة “تخدير جماعي”، يحوّل الفخر الوطني إلى مسكّن سياسي لتغطية واقعٍ يزداد قسوة: انهيار التعليم، فساد المحليات، انتشار الفقر، وغياب العدالة الاجتماعية.
وفي الوقت الذي تُنفق فيه المليارات على “العاصمة الإدارية” و”المتحف الكبير” و”الاحتفالات الأسطورية”، يعيش الملايين من المصريين في عشوائياتٍ بلا خدمات، أو يهاجرون قسرًا عبر “رحلات الموت” في المتوسط بحثًا عن حياةٍ كريمة.
المنافقون بتوع ركوب الموجة
هاجم خالد عمارة بشدة “المنافقين الذين يركبون الموجة”، قاصدًا أولئك الذين يرفعون شعارات الوطنية بينما هم أنفسهم يمارسون الفساد والفوضى والجهل في حياتهم اليومية.
قال نصًا: “البلطجة والفوضى والتكاتك والميكروباصات وعدم النظافة والغش والرشوة والفساد والتخلف وغياب الأخلاق... تمثيلية التفاخر بالماضي السخيفة يعرف الجميع أنها تمثيلية.”
هذه الجملة تختصر مأساة المصري المعاصر الذي خُدع بخطاب النظام عن “العظمة التاريخية”، بينما يُترك فريسة لفوضى إدارية وفساد منظم.
فما جدوى المتاحف والاحتفالات حين يعجز المواطن عن شراء الدواء أو دفع فاتورة الكهرباء أو تأمين تعليم أبنائه؟
النظام لا يقدّم حلولاً حقيقية، بل يكتفي بشحن عواطف الناس بأغاني “تحيا مصر” ومهرجانات تمجيد الحاكم، وكأن الفخر بالأجداد يُغني عن فشل السياسات وغياب الكفاءة في الحاضر.
السيسي والتاريخ كوسيلة للدعاية
منذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، أصبحت الدولة تستثمر في الرموز الحضارية لا في الإنسان.
من “موكب المومياوات الملكية” إلى “المتحف المصري الكبير”، يُقدَّم التاريخ كمنجز رئاسي، بينما تتفاقم الأزمات الاقتصادية والديون ويزداد اعتماد الدولة على القروض والمنح.
يتحدث النظام عن “عظمة الأجداد” في الوقت الذي يُهين فيه أحفادهم بالفقر والغلاء وانعدام فرص العمل.
المفارقة التي يشير إليها عمارة بوضوح هي أن من لا يستطيع إصلاح حاضره لا يملك حق التفاخر بماضيه.
فالتاريخ لا يصبح مصدر فخر إلا حين يُترجم إلى نهضة حقيقية في التعليم، والصناعة، والعلم، والكرامة الإنسانية — وهي قيم غابت تمامًا عن دولة السيسي.
من الفخر إلى التخدير
يقول عمارة بمرارة إن ما يحدث اليوم هو “تخدير جماعي”، فالمواطن يجد في ترديد أمجاد الماضي ملاذًا نفسيًا من واقعه البائس.
كتب:
“حين ترى شخصًا فاشلًا يتفاخر بأجداد له ماتوا منذ زمن بعيد، فهذه علامة على أنه سيكمل في الفشل… مدمن للتخدير ولا يريد أن يتغير.”
هذا التحليل لا يقتصر على الأفراد، بل ينطبق على منظومة الحكم نفسها، التي وجدت في المتاحف والاحتفالات وسيلة لإلهاء الجماهير وصرف الأنظار عن الانهيار الداخلي.
بدلًا من مواجهة الفساد أو تطوير التعليم، ينفق النظام المليارات على مشروعات تجميلية، ليبيع للعالم صورة “مصر العظيمة”، بينما يعيش المصريون في ظل سياسات قمعية وفقر مدقع.
إنه فخر زائف بلا مضمون، يعيد إنتاج “تمثيلية العظمة” التي تحدث عنها عمارة.
“ليس الفتى من يقول كان أبي”
استشهد عمارة بالمثل العربي: “إن الفتى من يقول ها أنا ذا، وليس الفتى من يقول كان أبي.”
وهو بيت شعر يتحول في السياق المصري إلى صرخة في وجه جيلٍ تائهٍ بين مجد الأجداد وبؤس الحاضر.
فالحضارة لا تُقاس بالمتاحف ولا بالاحتفالات، بل بما يقدّمه الإنسان اليوم من علمٍ وأخلاقٍ وعدالةٍ وتنمية.
لكن في ظل حكمٍ يكرّس الولاء بدل الكفاءة، والتطبيل بدل المحاسبة، لن يخرج من تحت رماد الحاضر سوى أجيال محبطة تلوذ بالماضي لتنسى حاضرها.
هكذا يتحوّل التاريخ إلى “مخدر وطني” تروّج له السلطة، ويصبح التفاخر بالماضي وسيلة للهروب من واقعٍ فاسدٍ قمعيٍ صنعته حكومة ترفع شعار الإنجاز بينما تعيش البلاد في أسوأ أزماتها المعيشية.
خاتمة: الحقيقة التي تزعج المنافقين
أنهى عمارة حديثه بجملة تلخّص المأساة المصرية: “الحقيقة دايمًا تزعج المنافقين والجهلة والفاشلين اللي بيحبوا التخدير والوهم.”
هذه العبارة ليست مجرد نقد ثقافي، بل اتهام مباشر للنظام ومؤسساته الإعلامية التي تحوّلت إلى أدوات لإنتاج الوهم الوطني.
في مصر اليوم، لا يجد المواطن ما يفتخر به سوى صور الأهرامات وتماثيل الملوك القدماء، بينما يعيش في جمهورية القروض والفقر والفساد.
وهكذا يظل السؤال الذي طرحه عمارة معلّقًا في وجه الجميع:
هل يحق لمن يعيش في الخوف والفقر والفشل أن يتفاخر بعظمة أجداده؟
الإجابة، كما يبدو، واضحة ومؤلمة: لا فخر في ماضٍ تُهين حاضره الحكومات، ولا مجد لأمةٍ تضحك على نفسها بالاحتفالات وهي تموت كل يوم جوعًا وصمتًا.

