في حادثة مأساوية هزت الرأي العام مؤخراً، كشفت تقارير عن محاولة انتحار طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره، كان دافعها المباشر هو الضغط الهائل للواجبات المدرسية والتقييمات المتواصلة.

 

هذه الواقعة ليست مجرد رقم في إحصائيات الصحة النفسية، بل هي جرس إنذار مدوٍ يضع النظام التعليمي بأكمله تحت المجهر، ويسلط الضوء على الأزمة الصامتة التي يعيشها أطفالنا في سباق محموم نحو التفوق الأكاديمي. إنها دعوة ملحة لإعادة تقييم الأولويات، والنظر إلى الطفل ككائن متكامل له احتياجات نفسية واجتماعية لا تقل أهمية عن تحصيله الأكاديمي.

 

سباق التقييمات الذي لا يرحم

 

لقد تحول المشهد التعليمي في السنوات الأخيرة إلى ساحة معركة، حيث لم تعد العملية التعليمية تهدف بالدرجة الأولى إلى بناء المعرفة وتنمية المهارات، بل أصبحت تركز بشكل مفرط على الكم والتقييم المستمر. يجد الطالب نفسه محاصراً بين جداول زمنية ضيقة، وكميات هائلة من الواجبات المنزلية التي تمتد لساعات طويلة بعد انتهاء اليوم الدراسي، بالإضافة إلى سلسلة لا تنتهي من الاختبارات القصيرة، والتقييمات الأسبوعية، والمشاريع الفصلية.

 

هذا الضغط الأكاديمي المفرط له تأثيرات مدمرة على الصحة النفسية للطلاب. تشير الدراسات إلى أن الواجبات المدرسية التي تتجاوز 10 دقائق لكل صف دراسي يمكن أن تكون سلبية وتزيد من مستويات التوتر والقلق.

 

في بريطانيا، على سبيل المثال، أظهرت الإحصائيات أن طفلاً واحداً من كل ثلاثة يحتاج إلى خدمات الصحة النفسية، وأن ثلث طلاب المدارس الثانوية يتغيبون عن الدراسة بسبب حالات اضطراب القلق المرتبطة بالدراسة .

 

هذا التوتر المستمر قد يؤدي إلى الاكتئاب والشعور بالإحباط نتيجة الشعور بعدم القدرة على مجاراة المتطلبات .

 

صرخة أولياء الأمور: "إحنا تعبنا"

 

في مواجهة هذا الواقع القاسي، ارتفعت أصوات أولياء الأمور مطالبةً بإصلاح جذري. لم يعد الأمر مقتصراً على شكاوى فردية، بل تحول إلى حملات منظمة على وسائل التواصل الاجتماعي، تعكس حالة من الغضب والإرهاق الجماعي.

 

يشتكي أولياء الأمور من أنهم أصبحوا شركاء إجباريين في هذا العبء، حيث يضطرون لقضاء ساعات طويلة في مساعدة أبنائهم على إنجاز الواجبات، مما يلتهم وقت العائلة ويقضي على فرص الأنشطة الترفيهية والاجتماعية الضرورية لنمو الطفل المتوازن. هذا التدخل من قبل أولياء الأمور في حل الواجبات، والذي أكد 67% من المشاركين في استطلاع للرأي أنه يكرس ثقافة الاتكالية، هو نتيجة مباشرة للضغط المفروض على الأسر .

 

 

تعكس التعليقات على الفيديو السابق غضب أولياء الأمور فكعلق أحدهم  مستنكراً: "لا كثرة الواجبات المنزلية. نحن جيل لم يستذكر لنا أولياء أمورنا دروسنا ولم يعلمنا أب أو أم أو أخ.. ولم يكتبوا لنا واجباتنا المدرسية."

 

هذه الأصوات تطالب بالتحول من "لغة الكم" إلى "لغة الكيف" في التعليم، والتركيز على جودة التعلم بدلاً من حشو المناهج وتكديس الواجبات.

 

ما وراء الواجبات: الصحة النفسية أولاً

 

إن حادثة محاولة الانتحار التي وقعت مؤخراً هي تذكير مؤلم بأن الضغط الأكاديمي يمكن أن يكون قاتلاً. عندما يشعر الطفل بالعجز، والإحباط، والخوف المستمر من الفشل، قد يرى في إنهاء حياته مخرجاً وحيداً من هذا العبء الذي لا يطاق. إن أسس الصحة العقلية الجيدة تقوم على ركائز أساسية مثل التواصل، والأمل، والهوية، والمعنى، والتمكين، وهي ركائز تزداد هشاشة في ظل نظام تعليمي يركز على الإنجاز الأكاديمي على حساب النمو النفسي.

 

إن الصحة النفسية لأطفالنا يجب أن تكون الأولوية القصوى. يجب على الأنظمة التعليمية إعادة النظر في فلسفتها، والاعتراف بأن الطفولة ليست فترة تدريب مكثف على الإجهاد. إن الحاجة إلى اللعب، والاستكشاف، والنوم الكافي، وقضاء الوقت مع العائلة، هي حاجات أساسية لا تقل أهمية عن التحصيل الأكاديمي.

 

نحو إصلاح تعليمي يراعي إنسانية الطفل

 

إن تخفيف الواجبات المدرسية والتقييمات ليس تهاوناً في التعليم، بل هو استثمار في جيل سليم نفسياً وعقلياً. يجب أن يتجه الإصلاح التعليمي نحو خلق بيئة تعليمية أكثر إبداعاً وتحفيزاً، توفر فرصاً للتعبير والإبداع بعيداً عن الضغوط الأكاديمية. إن صرخة الطفل الذي حاول الانتحار يجب أن تكون نقطة تحول حقيقية، تدفعنا جميعاً، معلمين وأولياء أمور ومسؤولين، للعمل على بناء نظام تعليمي يرى في الطفل إنساناً قبل أن يراه طالباً.