يتساءل الدكتور عمر عبيد حسنة سؤالاً استنكاريًا: أيُعقل أن يُطالَب دعاة الإسلام بالانسحاب من الميدان، وترك هموم الناس، وعدم مواجهة أصحاب النفوذ والسلطة بالوسائل المشروعة، وهم يحاولون أن يسيروا على خطى النبوة؟! فمن سيبقى إذًا هدفًا لدعوتهم إن هم تخلّوا عن الناس وابتعدوا عن الجماهير؟

 

يقول: والمسلم الحق، هو الذي يلتصق بهموم الناس، لا يغادرها، ولا ينفصل عنها، متأسيا بالرسول القدوة صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله رسولا من مجتمعه وقومه، حتى كان لا يتميز عنهم بطعام، أو لباس، أو مجلس، أو هيئة، ولا يترفع بمسكن، أو نفقة، نشأ فيهم، وبقي منهم، إذا جاءه السائل، لا يميزه من قومه، بل يسأل: أيكم محمد؟

 

الرسول القدوة: التصاق دائم بالناس

 

كانت وصاياه المستمرة: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"  (رواه البخاري عن عمر).. ( إن كنتم آنفا، تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا..) (رواه النسائي وابن ماجه عن جابر).. ( هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد) (رواه ابن ماجه والحاكم، عن أبي مسعود البدري). وكان التسديد من السماء، لخطوات النبوة، ودورها الفاعل في تقويم المجتمع بشرع الله، مستمرا: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا)] (الكهف:28). ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين] (الأنعام:52).

 

الانتصار للفقراء وتحذير من الترف

 

وكان عليه الصلاة والسلام، دائما الانتصار والالتصاق بالفقراء والمساكين، يعتبرهم كيان المجتمع، وأدوات إنتاجه، ووسائل حمايته، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: ( ... هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟!

 

) (رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص). إن الفقراء، عدة الإنتاج وسواعده، في السلم، وعدة الدفاع ورجاله، في الخوف والحرب، في الوقت الذي كان صلى الله عليه وسلم فيه، يعتبر أن الانفصال عن الناس، والانغماس في الرفه والترف، طريق السقوط والانقراض، ويحذر من الكبر، الذي هو ( بطر الحق، وغمط الناس) (رواه مسلم عن ابن مسعود). وإن الفسق والبطر سبب الدمار، قال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا] (الإسراء:16).

 

والصراع تاريخيا كان- ولا يزال- بين (الملأ) المترف، المستأثر بكل شيء، الظالم، المتسلط، وبين جمهور الناس (القوم)، وإن النبوة كانت دائما في مواجهة مع (الملأ)، حتى حولت الصراع والتآكل والحقد، إلى حب وتعاون وتكافل.


التكافل الاجتماعي ركن أساسي في الإسلام

 

والأمر لم يقتصر، في الإسلام، على إيقاظ الوازع الداخلي، وتربية الضمير، وتنمية الحس بالآخرين فقط، وإنما تجاوز إلى وضع التشريعات الملزمة، لتحقيق التكافل الاجتماعي، على كل الأصعدة، التربوية، والنفسية، والمادية، والسياسية... الخ، بل لقد جعل تحقيق التكافل الاجتماعي، أحد أركان الإسلام.. فالزكاة والصدقات، والنفقات الواجبة، وتحريم الفضل في ساعات الشدة، كما قال أبو سعيد الخدري: « حتى رأينا أنه لا حق لأحدنا في فضل» (رواه مسلم)، يدل على أن النبوة إنما بعثت في الناس، وللناس.

 

تساؤلات لدعاة اليوم المنسحبين من الساحة

 

ولا أدري ضمن إطار أي منطلق، أو أي مفهوم للتدين، يحق لدعاة الإسلام أن ينسحبوا من الساحة، ويغادروا هموم الناس، ولا يواجهون (الملأ)، بالوسائل المتاحة والمشروعة، وهم يحاولون السير على قدم النبوة؟! ومن سيبقى محل دعوتهم، إذا افتقدوا (القوم)، أو جماهير الناس؟ وما قيمة ما يحملون من قيم ومبادئ عمليا، إذا لم يحولوها إلى برامج وخطط، تنفع وتسهم بمعالجة مشكلات الناس، وتقويم سلوكهم بقيم الإسلام، وبذلك إنقاذهم، وإلحاق الرحمة بهم؟ وكيف إذا انسحبوا من المجتمع، ولم يتعرفوا إلى قضاياه ومشكلاته، يمكنهم أن يتعاملوا معه؟ وكيف يصدق الناس عمليا، أن الإسلام هو الحل، ما لم نتقدم به، ونتمثله، ونقدم حلولا لمشكلات الناس، في ضوئه؟

 

نقد المؤسسات الإسلامية المنعزلة

 

ومع شديد الأسف، فإن الكثير من المؤسسات والجمعيات والمنظمات الدعوية الإسلامية، لسبب أو لآخر، أصبحت خارج الواقع، وخارج الحاضر، وخارج هموم الناس ومشكلاتهم.. أصبحت تشكل أجساما منفصلة، وأهدافا خاصة منفصلة عن أهداف الأمة العامة، حتى إنها تدعي التميز عن جسم الأمة، الأمر الذي سوف يوقعها في الشراك المنصوبة لها، ويجعل منها طوائف منفصلة، ودوائر مغلقة، تعكف على خاصة نفسها، وتعجب بفكرها، ولا ترى إلا تراثها وتاريخها، مما يسهل عزلها عن ضمير الأمة، ومحاصرتها، وضربها، أو على الأقل إلغاءها. لذلك نقول: إن محاولات إبعادها عن الأمة، وإخراجها من الساحة، ومحاصرتها بالتهم الباطلة، إنما هي لشل حركتها، وتسهيل ضربها، بعيدا، حتى لا يحس بإصاباتها جسم الأمة.

 

خطورة فلسفة الانسحاب وتبريراته

 

ولعل فلسفة الانسحاب من المجتمع، ومحاولة إيجاد المشروعية، لتولية الدبر، لهذا الانسحاب من الدوائر الاجتماعية المتاحة، هو الأخطر اليوم، حيث بدأ بعض الدعاة يتوهم أنهم، إذا انخرطوا في هموم الناس، فسوف يقومون بوظائف الدولة، التي تتنكر للإسلام، نيابة عنها، مما يمكن أن يصبح إعانة لها، وتقوية لسلطانها، خاصة بعدما برزت صورة الدول، والأنظمة الشمولية، التي تتدخل في كل شيء، وتحاول امتلاك كل شيء، وتأميم كل شيء، حتى التفكير بتأميم الإنسان، لصالح النظام، وتحويل الناس إلى موظفين، وأكلة على مائدة السلطان. وفي اعتقادي، أن ذلك كله، لا يعفي دعاة الإسلام، من حمل المسئولية، والالتصاق بهموم الناس، بل أرى أنه كلما اشتد الحال، كلما ازدادت المسئولية، وليس العكس.

 

حجج متهافتة لتهميش العمل الإسلامي

 

أما محاولة محاصرة الدعاة الإسلاميين اليوم، بحجة أنه لا حاجة لمؤسساتهم ومنظماتهم؛ لأن المجتمع كله مسلم، فهي حجة متهافتة، متناقضة مع نصوص الكتاب والسنة، ويدفعها الواقع والممارسة. إضافة إلى أنها يمكن أن تنسحب على المؤسسات والمنظمات الوطنية، والشعبية، والقومية، غير الإسلامية، وهذا ما لم يقل به أحد. والعجيب الغريب في عالمنا الإسلامي، أو في بعضه على الأقل أن منطق الدولة الشمولية، انحسر وتراجع في العالم كله، وأصبح كل شيء يخضع للمنطق الليبرالي، أو اقتصاد السوق، إن صح التعبير، المصطلح الذي بدأ يفسر الحالة الثقافية، والسياسية، والاقتصادية على سواء. وأصبح المنطق الليبرالي، وسيلة لإباحة، وحرية كل شيء، وإخضاعه للمنافسة.. لكن في المجال الإسلامي فقط، دون سواه، ما يزال يتحكم فينا عقل الأنظمة الشمولية.

 

المخرج: تحويل الفكر إلى فعل

 

والمخرج- والله أعلم – هو المبادرة بالأعمال الصالحة، وتحويل الفكر إلى فعل، والشعار إلى شعيرة، والانتقال إلى مرحلة التفكير والتربية، من أجل التغيير، والعودة إلى التجديد، والاجتهاد في الميدان، وليس من وراء المكاتب وفوق المنابر، والعودة إلى الناس، محل الدعوة وميدانها، وتربته الصالحة للغرس، وامتلاك القدرة على الخروج من الحصار بالوسائل المشروعة، بعيدا عن أي تشنج، أو تعصب، أو انفلات من الضوابط الشرعية، وتقديم الإنسان الأنموذج، الذي يثير الاقتداء بعلمه وعمله وسلوكه.

 

خاتمة

 

فالكتاب الذي نقدمه اليوم، لا شك أنه يعتبر إسهامة بارزة، لم تقتصر على فتح ملف هذه القضية الخطيرة، والاستشهاد لها من الكتاب والسنة، وسيرة خير القرون، واستدعائها إلى ساحة الاهتمام، بعد أن كادت تغيب عن فلسفة العمل الإسلامي، بميادينه المختلفة اليوم، تحت شتى الذرائع والمعاذير، وإنما استطاعت أن تخطو في الموضوع خطوات مقدورة، حيث لم يقتصر الباحث، جزاه الله خيرا، على تحديد الإصابات، وإنما حاول دراسة أسبابها المتعددة، كما حاول المساهمة بوضع المقترحات النافعة، والمعالم البارزة على الطريق الطويل.