في بلدٍ انقلبت فيه الموازين وتحول فيه القانون إلى سوط بيد السلطة، تُقدّر منظمات حقوقية عدد المحامين المعتقلين في مصر بنحو 300 محامٍ، بينهم أسماء بارزة كان لها دور في الدفاع عن المعتقلين السياسيين وكشف الانتهاكات، قبل أن تتحول بدورها إلى ضحية جديدة داخل السجون.
الدفاع عن المظلومين صار جريمة.. ومهنة المحاماة تحت الحصار الأمني
السلطة التي نصّبت نفسها حارسًا على العدالة، حوّلت المحامين إلى متهمين، وساحات القضاء إلى مقابر للضمير.
من بين هؤلاء: صبحي صالح، عصام سلطان، السيد خلف، أحمد نظير الحلو، عبد رب النبي محمد، محمد يوسف، محمد أبو هريرة، إبراهيم عبد المنعم، وهدى عبد المنعم… أسماء لامعة في القانون، لكنها اليوم بين قضبان سجون الانقلاب، تُعاقَب لأنها دافعت عن المظلومين.
هدى عبد المنعم.. ستة أعوام من الحبس والتعذيب في عزلة تامة
المحامية الحقوقية هدى عبد المنعم نموذج حيّ لعدالة أُعدمت على يد السلطة.
معتقلة منذ عام 2018، تجاوزت مدة حبسها الاحتياطي بسنوات، وتعاني من تدهور صحي خطير وحرمان تام من العلاج. ورغم مناشدات المنظمات الحقوقية للإفراج عنها، تواصل السلطات تجاهلها بدم بارد، في رسالة واضحة مفادها: "الرحمة ليست من صفات هذا النظام".
ما يحدث مع هدى عبد المنعم ليس استثناءً، بل هو قاعدة في جمهورية السجون التي أنشأها عبد الفتاح السيسي، حيث يصبح الحبس الاحتياطي وسيلة انتقام طويلة الأمد ضد كل صوت معارض أو مدافع عن الحقوق.
من الدفاع إلى الزنزانة: أحمد نظير الحلو ضحية جديدة لتدوير القضايا
منذ نوفمبر 2022، يقبع المحامي بالنقض أحمد نظير الحلو خلف القضبان، بعد اعتقاله من منزله وإخفائه قسريًا أسبوعًا كاملًا في مقرات الأمن الوطني.
وُجهت له التهم الجاهزة: "بث أخبار كاذبة، والانضمام لجماعة إرهابية، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي" — تهم لم تعد تُقنع أحدًا سوى أجهزة النظام التي تستخدمها ذريعة لإسكات أي معارض.
عامٌ كامل من الحبس الاحتياطي دون محاكمة حقيقية، فقط تجديدات دورية بأوامر أمنية، في ظل صمت مخزٍ من نقابة المحامين المصرية، التي تخلت عن دورها وأصبحت أداة في يد السلطة بدلًا من أن تكون حصنًا للدفاع عن أعضائها.
محمد أبو هريرة.. تهديد بالتصفية داخل سجن بدر 3
المحامي والحقوقي محمد أبو هريرة، المعتقل منذ أكتوبر 2018، والمحكوم عليه بالسجن 15 عامًا في قضية سياسية مفبركة، يواجه اليوم تهديدًا صريحًا بالقتل داخل سجن بدر 3.
ضابط الأمن الوطني الملقب بـ"مروان حماد"، المسؤول عن إدارة السجن، هدده بالتصفية الجسدية، قائلاً إن لديه تفويضًا من رئاسة الجمهورية "لعزل المعتقلين السياسيين ودفنهم أحياء داخل الزنازين".
أبو هريرة محروم من زيارة أسرته منذ أكثر من ثماني سنوات، ويُستخدم كرمز للبطش الممنهج ضد المدافعين عن حقوق الإنسان.
الرسالة واضحة: كل من يرفع صوته في وجه الظلم سيُدفن في بدر أو العقرب.
عصام سلطان وصبحي صالح.. رموز القانون في أقفاص الحديد
من داخل سجون العقرب، يقبع عصام سلطان، المحامي بالنقض ونائب رئيس حزب الوسط، منذ يوليو 2013.
رجل القانون الذي وقف يومًا في ساحات المحاكم مدافعًا عن الثورة، أصبح اليوم رهينة الحبس الانفرادي والتعذيب البطيء.
منظمات دولية كـ"هيومن رايتس ووتش" وصفت احتجازه بأنه "تعسفي وانتقامي"، لكن النظام لا يُبالي، بل يراكم جرائمه بتحدٍّ سافر.
أما صبحي صالح، عضو لجنة تعديل الدستور بعد ثورة يناير، فاعتُقل هو الآخر بعد مجزرة رابعة، وأسقطت عضويته من نقابة المحامين بقرار سياسي انتقامي.
كلاهما حُكم عليه دون محاكمة عادلة، وكلاهما يواجه موتًا بطيئًا خلف الأسوار في ظل غياب أبسط مقومات العدالة أو الإنسانية.
العدالة المختطفة.. نقابة صامتة وسلطة لا تعرف إلا البطش
منذ انقلاب 2013، تحولت نقابة المحامين – التي كانت يومًا رمزًا لاستقلال الكلمة – إلى كيان صامت يخشى حتى إصدار بيان.
السلطة لم تكتفِ بسجن المحامين، بل أسقطت قيد العشرات منهم بقرارات سياسية تحت ذريعة "الإدراج على قوائم الإرهاب".
في الوقت نفسه، تُدار المحاكم كملحقات لمكاتب الأمن الوطني، وتُصدر أحكامها وفق توجيهات لا علاقة لها بالقانون أو القضاء.
دولة بلا قانون.. وعدالة بلا قضاة
ثلاثمائة محامٍ وراء القضبان، مئات القضايا المفبركة، آلاف الضحايا في سجون القهر، بينما يرفع النظام شعار "الجمهورية الجديدة".
الحقيقة أن ما بناه السيسي ليس جمهورية، بل إمبراطورية للخوف، لا مكان فيها لعدالة أو كرامة أو إنسان.
في مصر اليوم، المحامي الذي يدافع عن القانون هو أول من يُعتقل باسمه، والعدالة تُنحر كل يوم على مذبح السلطة.

