في دولة تُدار بالقبضة الأمنية ويُصادر فيها الحق في التعبير وتُخنق فيها الحريات بلا هوادة، ليس مستغربًا أن يمضي صحفي مسنٌّ مثل محمد سعد خطاب أكثر من عام في الحبس الاحتياطي، فقط لأنه تجرأ على نشر رأي على منصّة تواصل اجتماعي. المفزع في قضية خطاب ليس فقط أنها تُجسّد الظلم القضائي والانحطاط السياسي، بل أنها تكشف مرةً أخرى أن النظام الحاكم في مصر يعتبر الكلمة الحرة جريمة، وأن أجساد المعارضين والصحفيين صارت وقودًا لبقائه.
مرض مزمن.. وعدالة ميتة
الكاتب الصحفي محمد سعد خطاب، البالغ من العمر 73 عامًا، يواجه الموت في زنزانة باردة دون رعاية طبية مناسبة، بعد أن تجاوز مدة الحبس الاحتياطي القانونية وفقًا للمادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية. يعاني خطاب من أمراض مزمنة مثل السكري ومشاكل في القلب، ومع ذلك لم يُفرج عنه رغم عدم حضوره جلستي تجديد حبس بسبب الإعياء الشديد.
هل يُعقل أن يبقى شيخٌ مريض، متقاعد عن العمل الصحفي منذ سنوات، محبوسًا لأكثر من عام بسبب منشور على "إكس" انتقد فيه مشروعًا عقاريًا؟! هل أصبح النقد المعماري جريمة إرهابية في جمهورية الخوف؟
الحبس الاحتياطي.. سلاح القمع المفضل
تُستخدم تهمة "الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة" كقالب جاهز يُلقى على أي صوت معارض أو مستقل، لتبرير الحبس بلا محاكمة، دون قرائن أو أدلة حقيقية. خطاب ليس استثناءً، بل هو مجرد اسم جديد يُضاف إلى قائمة طويلة من الصحفيين والمواطنين الذين يُدفنون أحياءً داخل الزنازين تحت مسمى "الحبس الاحتياطي".
حسب قانون الإجراءات الجنائية، لا يجوز أن تتجاوز مدة الحبس الاحتياطي عامين في أقصى الحالات. خطاب معتقل منذ أغسطس 2023، على ذمة القضية رقم 2063 لسنة 2023، وهي واحدة من آلاف القضايا التي تحولت إلى مقابر مؤقتة لأبرياء ينتظرون المحاكمة إلى أجل غير مسمى.
أسرة تنهار.. ومؤسسات تتفرج
بحسب المفوضية المصرية للحقوق والحريات، أرسلت أسرة خطاب تلغرافًا إلى النائب العام تطالب فيه بالإفراج عنه فورًا نظرًا لتدهور حالته الصحية، إلا أن الصمت الرسمي لا يزال هو الرد الوحيد. ابنته الكبرى أجّلت زواجها لعامين، بانتظار خروجه ليشهد حفل الزفاف، بينما تموت الأسرة ببطء نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.
ورغم استعداد خطاب لتحمّل تكاليف علاجه في أي مستشفى خاص على نفقته الخاصة، تصرّ السلطات على إبقائه في ظروف احتجاز لا تليق بإنسان، ناهيك عن رجل مسن يعاني من أمراض مزمنة.
بلد الصحافة فيه تهمة
لا يمكن قراءة مأساة خطاب بمعزل عن المشهد الصحفي العام في مصر، التي احتلت المرتبة السادسة عالميًا في عدد الصحفيين المحبوسين خلال عام 2024، بـ24 صحفيًا خلف القضبان، من بينهم رسام الكاريكاتير أشرف عمر المعتقل منذ يوليو الماضي.
هكذا صار الصحفي في مصر يُلاحَق لمجرد أن يرسم، أو يكتب، أو يشارك رأيًا، أو يلتقط صورة. لم يعد للصحافة وظيفة في هذا البلد سوى التطبيل والتبرير والتضليل، ومن يخرج عن هذا النص يجد نفسه متهمًا بالإرهاب أو التحريض أو نشر أخبار "كاذبة"، في بلد الحقيقة فيه جريمة.
صرخة أخيرة: أنقذوا البقية
قضية محمد سعد خطاب يجب ألا تمرّ بصمت. هي ليست مجرد مأساة إنسانية، بل جريمة مكتملة الأركان ترتكبها السلطة في وضح النهار بحق رجل مسنٍّ لا سلاح له سوى الكلمة. استمرار احتجازه يكشف أن الحديث عن "جمهورية جديدة" و"حوار وطني" هو محض أكاذيب، ما دامت الزنازين لا تزال مفتوحة على مصراعيها لكل من لا يصفق أو يطأطئ رأسه.
إذا لم يتحرك المجتمع، والنقابات، ومن تبقى من الشرفاء في الإعلام والقانون، فستتحول الزنازين إلى مقابر جماعية للضمير المصري.

