لم تكن أشجار المريوطية تعلم أن الرحلة التي بدأت جذورها فيها منذ سنوات ستنتهي فجأة في تربةٍ غريبة لا تعرفها.
أربعة آلاف شجرة وأكثر من ألفي نخلة، زرعتها محافظة الجيزة في محيط المتحف المصري الكبير استعدادًا للافتتاح، وجدت نفسها تُنقل لمسافات بعيدة، بين شارعي اللبيني والمريوطية، في بيئة جديدة لا تشبه موطنها الأول، لتتحول خلال أسابيع قليلة إلى هياكل صامتة لا تقوى على مقاومة هواء غليظ، وتراب لا يرحم، وشمس لا تمنح فرصة للحياة.
شوارع فقدت لونها الأخضر
المشهد الذي يواجهه المارة يوميًا قاسٍ؛ نخيل ذابل، أشجار مائلة لا تحمل ورقة خضراء، وأرصفة تحوّلت إلى مقابر للنباتات الميتة. الجذوع القديمة، التي لم تُقتلع بالكامل، تقف كعلامات على جريمة لم يلتفت إليها أحد. بقايا ظلٍ كان يحمي الناس من حرارة الصيف، اختفى، فصار المشي على امتداد الكيلومترين بين المدارس والبيوت والتمارين اليومية رحلة عذاب تحت الشمس، وسط ضوضاء السيارات، وعوادمها الثقيلة.
ذاكرة سكان تغيّرت ملامحها
هدير غنيم، صيدلانية عاشت في المريوطية أكثر من 20 عامًا، تستعيد عبر الذاكرة صورة مغايرة تمامًا لما آل إليه الشارع اليوم.
تقول إن المكان كان مليئًا بأشجار ضخمة تحيط بالفلل القديمة، ورائحة الندى في الصباح كانت جزءًا من هوية المنطقة: «الشارع كان أضيق بس كان روحه أحلى.. مفيش الزحمة ولا الأبراج ولا التكاتك. كنا بنشم ريحة زرع بجد».
لكن بمرور الوقت تهاوت الفلل، وصعدت الأبراج، وازدحمت الطرقات، واختفت المساحات الخضراء التي أعطت المكان سكينته. لم تَعُد هدير ترى في المريوطية ما يجبرها على البقاء، وتخطط قريبًا للرحيل.
على الجانب الآخر، يتمسك عم محمد، الرجل الستيني القادم من الفيوم عام 2006، بالبقاء وسط رقعة صغيرة من الخُضرة نجا جزء منها بجوار غرفته المتواضعة، حين ينادي على حمامه بصوته الخافت «حمام.. حمام» يخرج سريعًا، كأن بقايا المكان القديم تستجيب له وحده.
يتذكر المواسم التي كان فيها النخل الممتد على جانبي الترعة يلقي بثماره، وكيف بيع أفضل بلح في المنطقة من ثلاث نخلات فقط عند ناصية الشارع قبل أن تُقطع في أعمال التوسعة: «كانوا حاجة تانية.. إنما اتشالوا عشان الطريق».
مشهد أخضر اختفى من الذاكرة والكتب
الروائية منصورة عزّ الدين كانت من بين من احتفظوا بصورة أخرى عن المريوطية، جسّدتها في روايتها "بساتين البصرة"، حيث كتبت عن بساتين المانجو وأشجار البومباكس التي أحاطت بالمنطقة قديمًا.
تقول إن ذاكرة المكان هي ما بقي لديها بعد سنوات طويلة من الزيارة: «علاقتي بالمريوطية علاقة ذاكرة.. أخاف أروح وألاقيها غير اللي كانت في خيالي».
وكانت صور الأقمار الاصطناعية كافية للكشف عن الحقيقة؛ من أخضر كثيف عام 1972 إلى رمادي خانق عام 2025.
خسارة بيئية فادحة
بيانات منصة GFW تشير إلى أن مصر فقدت 18.5 كيلومترًا مربعًا من الغطاء الشجري داخل المدن.
ورغم أن الرقم يبدو صغيرًا، إلا أنه يُستثني الأشجار الصغيرة والمشاتل التي كانت تملأ جانبي ترعة المريوطية قبل تبطينها وتحويلها إلى مواقف خرسانية بلا حياة.
التحولات البيئية لم تتوقف عند فقدان الخضرة؛ إذ قدّرت تقارير دولية خسارة 4.3 آلاف فدان من الغطاء الشجري بين 2001 و2024، ذهب 84% منها بسبب الإزالة المباشرة.
وبالتوازي، ارتفعت الانبعاثات الناتجة عن فقدان الأشجار بنحو 560 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون.
منزل تحول إلى شاهد على زمن مضى
درية محمد، التي عاشت أكثر من 35 عامًا في منزل له حديقة كانت يومًا تزدهر بالأشجار المعمّرة، تقف اليوم أمام بيت بلا أسوار، زجاجه مهشم، واجهته مطموسة بأعمال المترو، وحديقته ميتة تقريبًا.
تقول بأسى: «كان عندنا شجر عمره مئة سنة.. كله اتشال. اللي باقي شاخ أو بيموت من دخان الفحم اللي بيولع تحت منه من المقاهي».
أشجار رحلت.. وصادرات ارتفعت
وبينما يختفي الشجر من الشوارع، تكشف بيانات COMTRADE عن ارتفاع صادرات مصر من الخشب ومشتقاته من 42 مليون دولار عام 2023 إلى 52.7 مليون دولار في 2024، في حين قفزت صادرات الفحم النباتي من 6.9 مليون دولار في 2022 إلى 11.6 مليون دولار في 2023.

