د. عطية عدلان
أكاديمي مصري- أستاذ الفقه الإسلامي
شاع في الآونة الأخيرة تكييفٌ للمعاملات البنكية، تكييف وتوصيف ينقض كلّ ما تقدم به الأولون، سواء بالفتاوى الشخصية الفردية أو بقرارات المجامع الفقهية والندوات الاقتصادية، فمنذ أيام قلائل أفتت إحدى دور الإفتاء الرسمية بأنّ فوائد البنوك ليست من قبيل الربا، لأنّها استثمار وتمويل وليست قرضًا، ومن قبل صدرت فتوى من دار الإفتاء ذاتها بتكييف شهادات الاستثمار على أنّها تمويلٌ، مؤكدة أنّ التمويل عقد جديد خلقه الاقتصاد على غير مثال سابق! وبهذا أفتى شيوخ لهم شهرة؛ فهل فوائد البنوك – سواء كانت فوائد قروض أو جوائز لشهادات الاستثمار أو غير ذلك – حلالٌ كما يقولون لكون العقود من قبيل التمويل والاستثمار لا من قبيل القرض؟ أم أنّها حرام حسبما قرّر الأوائل؟
بماذا أفتى الأوائل؟
مِن قبلُ أفتى الجهابذة الكبار من أمثال الإمام محمد أبو زهرة، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ حسن مأمون، والشيخ عبد الحليم محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي والشيخ جاد الحق، والشيخ عطية صقر، وغيرهم؛ بتحريم فوائد البنوك بكافة صورها، وبذلك أصدرت المجامع الفقهية العظمى قراراتها، وكان أولها قرار مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني بالقاهرة مايو 1965م، ثم تلاه قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 16:10 ربيع الثاني 1406هـ 1985م، ومن بعده في رجب من نفس العام جاء قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة، وفي المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية بالكويت جاءت التوصية الأولى تنص على الآتي: “يؤكد المؤتمر على أنّ ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو من الربا المحرم شرعًا”، ومن يومها والوضع الفهيّ العام مستقرّ على هذا التكييف؛ فما الذي استجدّ؟
هل استجدّ ما يستدعي التغيير؟
لم يستجدّ شيءٌ على الإطلاق، فالشريعة هي الشريعة لم تتبدل أحكامها ولن تتبدل، والبنوك هي البنوك، لم ولن تتراجع عن طبيعة عملها التي خلقت له، فهي مؤسسات قامت على الاتجار في الائتمان وحسب، ولم تزل القوانين المنظمة لعملها تصف الودائع بأنها قروض مضمونة على البنك، وتصف تمويلها للمشاريع بأنها قروض مضمونة للبنك، أمّا التغيير الحقيقيّ الذي وقع منذ زمن فهو تفحش البنوك في اختصاصها هذا إلى حدّ خلق الديون، أمّا أنّ العملة الورقية قد تغيّر وضعها منذ انهيار قاعدة الذهب مع قرار نيكسون عام 1971م فهي مزحة لا أكثر، فإن كان قد تغيّر فقد تغيّر لصالح تكريس العملة الورقية؛ لأنها قبل هذا التاريخ كانت بمثابة إيصال بقيمة المبلغ بالذهب، أمّا الآن فقد صارت بذاتها نقدًا، فهي عملة تَطْمَئِنُّ النفسُ بِتَمَوُّلِهَا، وتحظى بالقبول العام، وتصلح وسيطا في التبادل ومستودعا للثروة؛ فما الذي بقي من أوصاف الثمنية والنَّقدية؟! فهي من الأموال الربوية تقاس على الذهب والفضة بعلّة الثمنية، وكل عملة منها نقد قائم بذاته تجري عليه جميع أحكام الربا، وبهذا صدر قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي رقم 6 في دورته الخامسة، وقرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي رقم 9 في دورته الثالثة، وفتوى اللجنة الدائمة رقم (111)، فأين هي المستجدّات؟
هل يصلح تكييفها على أنّها استثمار أو تمويل؟
أولًا: مصطلح “الاستثمار” ومصطلح “التمويل” من المصطلحات الواسعة الفضفاضة التي لا تنضبط، والتي تحتاج – لكي يتنزّل عليها حكمٌ شرعيّ – أن تُحدَّد صفتُها، فالتجارة استثمار، ودفعُ المال للاستثمار من خلالها تمويلٌ، وكذلك المزارعة والمغارسة والمساقاة والمضاربة وشركة العنان وشركة المساهمة وغيرها، فلكي نحكم على الاستثمار أو التمويل بأنه جائز أو محرم لابدّ من تحديد النشاط الذي يقع به الاستثمار ويقع له التمويل، فالاستثمار هو تثمير المال بأيّ طريقة سواء كانت حلالًا أو حرامًا، والتمويل هو دفع المال لمن يستثمره سواء كان بسبيل شرعيّ كالمضاربة أو بسبيل غير شرعيّ كالقرض الربويّ.
ثانيًا: البنك ليس عاملا ولا مضاربًا ولا شريكًا؛ إنّما البنوك عملها الاستثماري هو الاتجار في “الائتمان”، فهي تقترض بفائدة وتُقرض بفائدة أعلى، وتربح الفرق بين الفائدتين، ولا يمكن تكييف معاملاتها في الودائع أو شهادات الاستثمار على أنّها مضاربة؛ وآية ذلك أنّ يد العامل والمضارب والشريك والوديع يدُ أمانة بإجماع العلماء، أمّا يد البنك على الودائع بكافة أنواعها فهي يدُ ضمان بإجماع القانونيين، كما أنّ العائد على رب المال في المضاربة وعلى الشريك في الشركة “نسبة شائعة من الربح” باتفاق الفقهاء، أمّا العائد على الممول – سواء كان صاحب وديعة أو صاحب شهادة الاستثمار أو غير ذلك – فهو “نسبة من رأس المال”، وشتان بين الأمرين، يضاف لهذا وذاك أنّ المخاطرة – التي هي مناط استحقاق الربح – تكون في المضاربات والشركات بكافّة أنواعها من طرفي المعاملة؛ حسب قاعدة “الغرم بالغنم”، بينما في المعاملات البنكية لا يدخل البنك في المخاطرة إذا أقرض المستثمر.
ثالثًا: أمّا التكييف الصحيح للودائع وما شابهها من المعاملات البنكية التي تترتب عليها فوائد فهو أنّها قروض ربوية، قروض بفوائد محددة سلفًا؛ فالبنك – الذي يتلقى الودائع أو يصدر الشهادات – هو المقترض، والشخص الذي يودع أو يشتري الشهادة هو المقرض، والمبلغ المودَع أو المدوَّن في الشهادة هو رأس المال، والزيادة هي الفائدة الربوية، وقد عَرَّفَ العلماء الربا بأنّه: “زيادة مشروطة في دين مقابل الأجل” وأجمعوا على تحريمه في أيّ صورة أتى، وقد كان له في الجاهلية صورٌ أربعة، تكاد تغطي الصور المعاصرة في البنوك بعد تطوير في جانب الآليات.
الاعتصام بمحكمات الشريعة سبيل الفلاح
وأخيرًا فإنّ سبيل الفلاح ليس بإهدار الأحكام الشرعية والتلاعب بها، فلا يصح أن نبحث لمشكلاتنا الاقتصادية عن حلول تعتمد طريق التلاعب بأحكام الشرع، فإنّها هي الأمانة التي حمّلها الإنسان، قال تعالى: (إنّ عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا)، والتفريط في الأمانة مؤذن بخراب العمران.. والله المستعان.

