في وقت تعيش فيه غزة أحلك ظروفها الإنسانية والسياسية، وتتطلع فيه الأبصار إلى أي حراك داعم يعزز صمود أهل القطاع، تفجرت في العشرين من نوفمبر 2025 أزمة حادة هزت أوساط العمل الخيري والإسلامي، تمثلت في الضجة الكبرى التي رافقت الإعلان عن مؤتمر "وقف الأمة". ما كان يُفترض أن يكون منصة لحشد الدعم المالي والسياسي للقضية الفلسطينية، تحول إلى ساحة لتبادل الاتهامات وكشف المستور حول آليات إدارة أموال التبرعات، وذلك عقب انسحاب قيادات دينية وازنة على رأسها الدكتور علي محي الدين القرة داغي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومقاطعة حركة حماس للمؤتمر، محذرة من شبهات مالية خطيرة تحوم حول المنظمين.

 

لم تكن هذه الأزمة مجرد خلاف إداري عابر، بل جاءت لتكشف عن فجوة عميقة في الثقة بين المؤسسات العاملة باسم فلسطين وبين الجمهور، وسط اتهامات باستغلال دماء الضحايا لتحقيق مكاسب غير مشروعة، واستخدام أسماء العلماء كواجهة تجميلية لمشاريع تفتقر إلى الشفافية والنزاهة المالية.

 

الإنذار المبكر: لماذا رفعت حماس البطاقة الحمراء؟

 

بدأت كرة الثلج بالتدحرج فعلياً قبل انعقاد المؤتمر، حين أصدرت حركة حماس بياناً حاسماً في نوفمبر 2025، دعت فيه بشكل صريح إلى مقاطعة مؤتمر "وقف الأمة" وعدم التعاطي مع القائمين عليه. لم يكن موقف الحركة نابعاً من فراغ، بل استند إلى معطيات تشير إلى وجود خلل جوهري في إدارة الأموال التي جُمعت باسم "طوفان الأقصى". أوضح بيان الحركة أن هناك أطرافاً ومؤسسات استغلت الزخم العاطفي الشعبي للاستحواذ على ممتلكات وأموال دون قنوات صرف واضحة أو آليات رقابة تضمن وصول هذه المساعدات لمستحقيها في القطاع المحاصر.

 

شكل هذا البيان ضربة استباقية قاصمة لشرعية المؤتمر، حيث وضعت الحركة – بصفتها الطرف المعني مباشرة بالأرض والمقاومة – حداً فاصلاً بين الدعم الحقيقي وبين ما وصفته باستغلال القضية للتوسع في جمع الأموال. هذا الموقف وضع المؤسسات المشاركة في حرج بالغ، وكشف عن أن الخلاف ليس سياسياً بقدر ما هو خلاف حول النزاهة المالية والأخلاقية، محذرة من أن بعض الجهات باتت تتخذ من "إعمار غزة" و"إغاثة الملهوفين" ستاراً لمشاريع استثمارية غامضة لا يرى أهل غزة منها شيئاً.

 

التدليس الإعلامي: توريط العلماء في "مؤتمر الشبهات"

 

في خضم هذه المعمعة، وجد كبار علماء العالم الإسلامي أنفسهم وسط عاصفة لم يختاروها. فقد كشف الدكتور علي القرة داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومعه الشيخ محمد الحسن الددو والشيخ علي الصلابي، عن فضيحة أخلاقية ومهنية ارتكبها منظمو المؤتمر. فبرغم إبلاغ هؤلاء العلماء للمنظمين بانسحابهم المبكر ورفضهم القاطع للمشاركة – سواء بالحضور أو بالكلمة – إلا أن إدارة المؤتمر أصرت على وضع صورهم وأسمائهم في صدارة المواد الدعائية والملصقات الإعلامية.

 

يُقرأ هذا التصرف من قبل المنظمين كمحاولة يائسة لاكتساب شرعية مفقودة عبر "قرصنة" المكانة الرمزية لهؤلاء العلماء، في محاولة للتغطية على تحذيرات حماس وشبهات الفساد المالي. إن إصرار المنظمين على استخدام صور العلماء المنسحبين يمثل تزويراً للواقع وتضليلاً للمتبرع البسيط الذي قد يدفع ماله ثقةً في الشيخ القرة داغي أو الددو، لا في إدارة الوقف التي تحوم حولها الشبهات. وقد جاء بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين شديد اللهجة ليعرّي هذه الممارسة، واصفاً إياها بمخالفة الأمانة المهنية والشرعية، ومؤكداً أن الدعم لغزة لا يمر عبر القنوات المشبوهة.

 

بيان القرة داغي: دفاع عن النزاهة وهجوم على المرجفين

 

لم يكتفِ الشيخ علي القرة داغي ببيان الانسحاب التقليدي، بل أصدر بياناً تفصيلياً في التاسع عشر من نوفمبر، اتسم بلغة حادة ومباشرة، عكست حجم الغضب من الزج باسمه في أتون هذه الفتنة. نفى القرة داغي بشكل قاطع أي صلة إدارية أو مالية له بـ"وقف الأمة"، مؤكداً أن الاتحاد كمؤسسة لا علاقة له بالخلافات الداخلية للوقف ولا بإدارته.

 

لكن اللافت في بيان القرة داغي هو الهجوم المضاد الذي شنه على من أسماهم "المرجفين" و"المتصهينين" الذين استغلوا الأزمة للطعن في ذمم العلماء واتهامهم بالسرقة. لقد حاول البيان الفصل بوضوح بين "جريمة المنظمين" في استخدام الصور دون إذن، وبين "نزاهة العلماء" الذين انسحبوا فور علمهم بالخلافات والشبهات. واستخدم القرة داغي لغة فقهية صارمة لتحريم الخوض في أعراض العلماء، مستشهداً بنصوص شرعية تغلظ عقوبة البهتان، في محاولة لتحصين الجبهة الداخلية من التفكك إثر الشائعات التي طالت ذمم شخصيات لها ثقلها في الشارع الإسلامي، خاصة مع تداول أرقام فلكية حول تبرعات مفقودة تقدر بنصف مليار دولار.

 

أزمة الثقة وتداعياتها على مستقبل العمل الإغاثي

 

تتجاوز هذه الأزمة حدود مؤتمر فشل أو نجح، لتطرح تساؤلات وجودية حول مستقبل العمل الخيري الموجه لفلسطين. إن الحديث عن شبهات فساد مالي بهذا الحجم، وتورط جهات في استغلال اسم المقاومة لجمع الثروات، يوجه طعنة نجلاء للثقة الشعبية التي تعد الرصيد الاستراتيجي الأول للقضية الفلسطينية. عندما يرى المتبرع أن أمواله قد لا تصل، وأن المؤسسات تتصارع، وأن العلماء يُستغلون، فإن النتيجة الحتمية هي الإحجام عن الدعم، وهو ما يصب في النهاية في مصلحة الاحتلال الذي يسعى لتجفيف منابع دعم غزة.

 

كما تبرز الأزمة ضرورة إعادة هيكلة العلاقة بين "الداعم" و"المستفيد". فموقف حماس الصارم يشير إلى أن زمن "الشيكات المفتوحة" وجمع التبرعات العشوائي قد ولى، وأن المقاومة باتت تدقق في هوية من يجمع المال باسمها وكيفية إدارته. هذا التحول يفرض على كافة المؤسسات العاملة في هذا المجال تبني معايير شفافية صارمة، والابتعاد عن الضبابية التي ميزت عمل بعض "أوقاف الأمة" التي تحولت إلى صناديق سوداء.

 

درس قاسٍ وضرورة التصحيح

 

إن ما حدث في مؤتمر "وقف الأمة" يمثل جرس إنذار عالي الصوت لكل العاملين في الحقل الإسلامي والإغاثي. لقد أثبتت الوقائع أن العاطفة وحدها لا تكفي لإدارة المشاريع الكبرى، وأن استخدام الرموز الدينية للتغطية على الفشل الإداري أو الفساد المالي لم يعد ينطلي على أحد، لا سيما في ظل وجود رقابة صارمة من قوى المقاومة ومن الوعي الشعبي المتنامي.

 

المطلوب الآن ليس فقط تبرئة الذمم، بل تأسيس مرحلة جديدة من العمل المؤسسي القائم على الحوكمة الرشيدة والشفافية المطلقة. إن دعم غزة واجب مقدس لا يحتمل التلوث بشبهات الفساد أو التناحر السياسي، وعلى المؤسسات المعنية أن تدرك أن الحفاظ على طهارة اليد لا يقل أهمية عن نبل الهدف، لضمان استمرار تدفق شريان الحياة لشعب يباد.