أوبرا وسط الجوع: رقصة النظام في مشهد عبثي جديد يؤكد انفصال "الجمهورية الجديدة" عن الواقع المرير الذي يعيشه المصريون، أعلن محافظ أسيوط "هشام أبو النصر" عن دراسة إنشاء أول دار أوبرا في صعيد مصر، موجهاً مديرية الإسكان للبدء الفوري في الرسومات الهندسية لهذا "المركز التنويري". يأتي هذا الإعلان في وقت تئن فيه المحافظة تحت وطأة فقر مدقع يتجاوز الحدود العالمية، وبينما تنتظر القرى كوب ماء نظيف وسرير مستشفى آدمي، تقرر السلطة أن ما ينقص الصعيد هو "الفنون الرفيعة"، في مفارقة صارخة تثير سخرية وغضب الشارع والمراقبين على حد سواء.

 

"تنوير" القصور أم تعمية عن القبور؟

 

يُسوق النظام لهذا المشروع باعتباره خطوة لإعادة إحياء التراث الفني بالتعاون مع اليونسكو، لكن القراءة المتفحصة للمشهد تكشف عن سياسة ممنهجة للهروب إلى الأمام. فبينما تتحدث الحكومة عن "الرسومات الهندسية" لدار الأوبرا، تكشف التقارير الرسمية -التي يحاول النظام طمسها- أن أسيوط تتربع على عرش الفقر في مصر بنسبة تجاوزت 66.7% وفقاً لآخر بيانات بحث الدخل والإنفاق. هذا يعني أن ثلثي سكان المحافظة لا يجدون قوت يومهم، ومع ذلك، يرى المحافظ أن الأولوية ليست لإشباع البطون الجائعة، بل لبناء صروح خرسانية جديدة تضاف إلى قائمة "الفيلة البيضاء" التي استنزفت ميزانية الدولة وأغرقتها في الديون.

 

إن الحديث عن "التنوير" في ظل غياب أبسط مقومات الحياة الكريمة ليس إلا محاولة بائسة لتجميل وجه النظام القبيح أمام المنظمات الدولية. فكيف يمكن لمواطن يقطع الكيلومترات بحثاً عن جرعة دواء أو أنبوبة بوتاجاز أن يستوعب فكرة حضور حفل أوبرالي؟ إنها حالة من "الانفصال الشعوري" الكامل بين سلطة تعيش في أبراجها العاجية، وشعب يغرق في مستنقع الإهمال.

 

أولويات مقلوبة: العطش في قرى "منفلوط" والأوبرا في العاصمة

 

بدلاً من توجيه الملايين لإنشاء دار للأوبرا، كان الأجدر بمحافظ أسيوط النظر إلى الكوارث البيئية والصحية التي تضرب قرى المحافظة. التقارير الميدانية والاستغاثات اليومية تؤكد أن قرى كاملة في مركز "منفلوط" ومناطق مثل "المعابدة" تعاني من انقطاع دائم لمياه الشرب أو تلوثها واختلاطها بالصرف الصحي.

 

الخبراء يؤكدون أن تكلفة إنشاء دار أوبرا واحدة يمكنها أن تغطي تكاليف إحلال وتجديد شبكات المياه المتهالكة في عشرات القرى التي يشرب أهلها ماءً ملوثاً بالفشل الكلوي. لكن النظام يفضل المشاريع "اللقطة" التي يمكن تصويرها وافتتاحها في مهرجانات إعلامية، على المشاريع التحتية التي تدفن في الأرض ولا تجلب "الشو الإعلامي". إن مشهد المواطنين وهم يحملون "الجراكن" بحثاً عن المياه في قرى أسيوط هو الرد العملي والواقعي على أحلام المحافظ الأوبرالية.

 

انهيار المنظومة الصحية: الموت على أبواب المستشفيات

 

في الوقت الذي يوجه فيه المحافظ مديرية الإسكان لرسم "دار الفنون"، تعاني مستشفيات أسيوط الحكومية من انهيار تام. الجولات المفاجئة -التي غالباً ما تكون لغرض التصوير- كشفت عن كوارث حقيقية داخل المستشفيات: نقص حاد في الأدوية، تعطل الأجهزة الطبية، وغياب الأطقم الطبية، مما يحول هذه المستشفيات إلى محطات للموت بدلاً من الشفاء.

 

الأطباء والخبراء المعارضون يشيرون إلى أن ميزانية الصحة في المحافظة لا تكفي لتوفير المستلزمات الأساسية للطوارئ، فكيف تجرؤ السلطة على الحديث عن رفاهية الثقافة والفنون؟ إن المرضى الذين يفترشون طرقات المستشفيات الجامعية في أسيوط بانتظار سرير عناية مركزة هم الضحايا الحقيقيون لهذا الخلل في الأولويات. هل ستعالج "نوتات" الأوبرا أوجاعهم؟ أم أن التراث الفني سيشفع لهم عند ملك الموت؟.

 

آراء الخبراء: سفاهة اقتصادية واستفزاز للفقراء

 

يجمع الخبراء الاقتصاديون المعارضون لسياسات النظام الحالي على أن هذا المشروع يندرج تحت بند "السفاهة الاقتصادية". ويرى المحللون أن التوسع في المشاريع غير الإنتاجية في ظل أزمة ديون خناقة وتضخم غير مسبوق هو بمثابة انتحار اقتصادي.

 

الخبير الاقتصاد والسياسي ممدوح الولي: "إن إنشاء دار أوبرا في أفقر محافظة في مصر ليس تنمية، بل هو استفزاز طبقي. الحكومة تقول للمواطن الصعيدي: لا نملك أموالاً لدعم الخبز أو العلاج، لكننا نملك الملايين للرقص والغناء. هذا يعكس غياب دراسات الجدوى الاجتماعية والاقتصادية، واستبدالها برغبات 'الفرعون' في ترك مسلات خرسانية".

 

مهندس تخطيط عمراني (رفض ذكر اسمه): "أسيوط تحتاج إلى ظهير صحراوي صناعي، وإلى استكمال مشاريع الصرف الصحي المتوقفة منذ سنوات. توجيه مديرية الإسكان لرسومات الأوبرا هو تعطيل لكوادر الدولة عن مهامها الأساسية في حل أزمات السكن العشوائي والمنازل الآيلة للسقوط التي تهدد أرواح الآلاف".

 

وفي النهاية فإن إعلان إنشاء أول دار أوبرا في الصعيد ليس خبراً ثقافياً، بل هو لائحة اتهام جديدة ضد نظام أدمن القفز فوق الواقع. إن الصعيد لا يحتاج إلى استيراد فنون النخبة ليتنور، بل يحتاج إلى أن ترفع الدولة يدها عن خنق موارده وتهميش أبنائه. ما تحتاجه أسيوط هو كوب ماء نظيف، مدرسة لا تتكدس فيها الفصول، ومستشفى لا يطرد المرضى. أما الأوبرا، فليتركها النظام ليعزف فيها ألحان الوداع الأخير لشرعيته المتآكلة أمام جوع الفقراء.