في مشهد يعكس عمق الأزمة السياسية والحقوقية التي تعيشها تونس تحت حكم الرئيس المنقلب على الشرعية قيس سعيد، جاء قرار القضاء التونسي، الخميس الماضي، بالإفراج عن خمسة أعضاء من حركة النهضة ليشكل مفارقة صارخة في توقيت بالغ الحساسية.
فبينما قد تبدو الخطوة للوهلة الأولى انفراجة في ملف المعتقلين السياسيين، يرى مراقبون وحقوقيون أنها لا تعدو كونها إجراءً قضائياً فرضته "فراغة الملفات" من أي أدلة، في وقت تشهد فيه البلاد غلياناً اجتماعياً غير مسبوق، وتصعيداً في الملاحقات الأمنية التي تطال كافة أطياف المعارضة التونسية، مما يطرح تساؤلات جدية حول مستقبل الصراع بين السلطة والشارع.
خلفيات الإفراج: براءة الواقع من تهم "التآمر"
جاء قرار قاضي التحقيق بإطلاق سراح كل من عضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة محمد القلوي، والكاتب العام الجهوي ببن عروس محمد بوخاتم، والقياديين لطفي كمون وتوفيق بن عمار ونجله شعيب، ليكشف عن هشاشة التهم التي دأبت السلطة على توجيهها لخصومها. ووفقاً لما أوضحه القيادي في الحركة رياض الشعيبي، فإن الاعتقال استند بالأساس إلى "مراسلات هاتفية" تبادل فيها المتهمون آراء حول الوضع العام المتردي في البلاد، وتداولوا أخبار المعتقلين السياسيين.
هذه المراسلات، التي كيفتها الأجهزة الأمنية على أنها "تآمر على أمن الدولة"، لم تصمد أمام قاضي التحقيق الذي خلص إلى غياب أي ركن من أركان الجريمة. ومع ذلك، فإن الحرية التي نالها هؤلاء تظل "منقوصة" ومشوبة بالحذر، إذ قرر القاضي استمرار محاكمتهم وهم في حالة سراح، في قضية تعود جذورها إلى كواليس الانتخابات الرئاسية لسنة 2024، تلك الانتخابات التي وصفتها المعارضة بالمسرحية التي شابتها انتقادات واسعة حول نزاهتها وشرعيتها. هذا النمط من التعاطي القضائي يؤكد أن السلطة، وإن اضطرت للتراجع خطوة للوراء لغياب الأدلة، فإنها تُبقي سيف القضاء مصلتاً على رقاب النشطاء لضمان بقائهم تحت الضغط المستمر.
هل هو انفراج سياسي أم مناورة سلطوية؟
رغم أن البعض حاول قراءة قرار الإفراج كإشارة إيجابية أو "بالون اختبار" لتهدئة الأجواء، إلا أن القراءة السياسية والحقوقية المعمقة تدحض هذا التفاؤل. يؤكد الشعيبي أن ما جرى هو مجرد إجراء روتيني بحت فرضه غياب الأساس القانوني، ولا يحمل أي دلالات سياسية تشير إلى تغيير في نهج "سلطة الانقلاب". فالنظام الحالي لا يزال متمسكاً بسياسة القبضة الحديدية، ولا توجد أي مؤشرات حقيقية لنية الإفراج عن قيادات الصف الأول القابعة في السجون، وعلى رأسهم راشد الغنوشي، في قضايا يصفها الدفاع بأنها "ملفقة" تهدف لتصفية الخصوم السياسيين وإخلاء الساحة للرجل الواحد.
إن المخاوف من استمرار النهج القمعي تتعزز بالنظر إلى الأحكام القاسية التي صدرت سابقاً، والتي وصلت في بعض الحالات إلى 66 سنة سجناً في قضايا تفتقر لأبسط معايير المحاكمة العادلة. ويرى الشعيبي أن السلطة غير مستعدة إطلاقاً للاستماع لصوت العقل أو الاستجابة للمطالب الحقوقية، بل إنها قد تلجأ لتشديد العقوبات في القضايا الأخرى، مثل قضية "التآمر 1"، كنوع من الهروب إلى الأمام وتصدير أزماتها الداخلية عبر الانتقام من المعارضة.
القضاء تحت المقصلة: غياب الاستقلالية واستمرار التنكيل
من جانبه، يرسم المحامي والناشط الحقوقي العياشي الهمامي صورة قاتمة لمستقبل الحريات في ظل الوضع القضائي الحالي. الهمامي، وهو أحد المتهمين أيضاً في قضايا التآمر، يستبعد تماماً وجود أي نية للانفراج، مستنداً في ذلك إلى الخطاب الرسمي للرئاسة الذي لا يزال قائماً على التخوين والوعيد، وتصنيف كل صوت معارض في خانة "العمالة".
ويشير الهمامي إلى أن القضاء التونسي فقد استقلاليته بشكل شبه كامل منذ "مجزرة القضاة" عام 2021، حين عزل الرئيس 57 قاضياً ومنح نفسه صلاحيات مطلقة في التعيين والعزل. في ظل هذه "التبعية الهيكلية"، يصبح من الصعب الرهان على أحكام عادلة في جلسات الاستئناف المقبلة، خاصة تلك المقررة في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، والتي تتزامن مع دعوات المعارضة لوقفات احتجاجية ترفض المحاكمات الصورية عبر الشاشات وتطالب بحضور المتهمين الفعلي وتوفير ضمانات الدفاع. إن إصرار السلطة على هذا النهج يعكس رغبة في تحويل القضاء من سلطة مستقلة إلى أداة وظيفية لتصفية الحسابات السياسية.
وحدة الشارع: نقطة تحول في موازين القوى
في المقابل، وبرغم سوداوية المشهد الرسمي، تلوح في الأفق بوادر تحول نوعي في الشارع التونسي. فقد شكّلت المسيرة الحاشدة التي خرجت السبت الماضي تحت شعار "ضد الظلم" علامة فارقة في مسار مقاومة الاستبداد. لأول مرة منذ سنوات، تذوب الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين مختلف مكونات المعارضة، لتلتقي الحناجر في ساحة واحدة، موحدةً المطالب السياسية (الديمقراطية والحريات) مع المطالب الاجتماعية الملحة.
هذا "الالتحام الجماهيري" الذي وصفه الهمامي بنقطة التحول، يعكس إدراكاً جماعياً بأن الخطر لم يعد يهدد فصيلاً بعينه، بل يهدد كيان الدولة والمجتمع. فمن احتجاجات الأطباء الشبان والصحفيين، إلى صرخات أهالي قابس ضد التلوث، وصولاً إلى معركة الأمعاء الخاوية التي يخوضها المناضل جوهر بن مبارك منذ أسابيع، تتشكل جبهة واسعة تضع السلطة في عزلة شعبية متزايدة. إن هذا الحراك يؤكد أن سياسة الترهيب، وإن نجحت في سجن الأجساد، قد فشلت في كسر إرادة الشارع الذي بدأ يستعيد زمام المبادرة، معلناً أن مرحلة الصمت قد انتهت، وأن معركة استعادة الديمقراطية قد دخلت فصلاً جديداً أكثر زخماً وتحدياً.

