لم يكن صوت الريح مجرد عواء عابر في ليل غزة، بل كان نذيراً بكارثة إنسانية جديدة تضاف إلى سلسلة لا تنتهي من المآسي. مع دخول المنخفض الجوي الثاني هذا الموسم، تحولت خيام النازحين إلى مستنقعات، وتراب المخيمات إلى طين يبتلع الخطوات، وحياة مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى صراع يومي مع البرد والمطر والجوع والمرض. المشهد الذي يعيشه أكثر من مليوني فلسطيني في خيام مهترئة لا يصلح للعيش الآدمي، يختصر حجم الكارثة الإنسانية التي يتجاهلها العالم.

 

300 ألف خيمة اهترأت ولم يُدخل سوى 10% من الاحتياج

 

كشف مجد الشوا، رئيس شبكة المنظمات الأهلية في قطاع غزة، أن حوالي 300 ألف خيمة قد اهترأت تماماً ولم تعد قادرة على الصمود أمام الرياح والأمطار، مما يعرض الأطفال والنساء للبرد القارس والأمراض القاتلة. الأخطر أن ما تم إدخاله من خيام بديلة لا يتجاوز 10% من احتياجات سكان غزة، في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي في منع دخول مستلزمات الإيواء الأساسية من خيام وأغطية ومنازل متنقلة.

 

المنظمات الدولية تؤكد أن إسرائيل تحظر إدخال معظم مستلزمات الإيواء، بما لا يوازي حجم الاحتياج الكبير، وهو ما يؤدي إلى تدهور الأوضاع يوماً بعد يوم. الاحتلال الذي يسيطر على أكثر من 53% من مساحة القطاع، يدفع النازحين إلى التكدس في مساحات ضيقة منخفضة تتحول إلى مستنقعات مع أول زخة مطر، مما يجعل المياه تتسرب من المناطق المرتفعة إلى الغرب حيث تتركز معظم الخيام.

 

خسائر بـ4.5 مليون دولار في منخفض واحد

 

قدرت حكومة غزة الخسائر الناجمة عن المنخفض الجوي الأول في 15 نوفمبر بنحو 4.5 مليون دولار، شملت أضراراً لحقت بنحو 22 ألف خيمة ومرافق بنية تحتية وتلف أغذية وأدوية. المنخفض الأول كان "كارثياً" بحسب الشوا، إذ تسبب في تشريد عشرات الآلاف من النازحين بعد تلف خيامهم بالكامل، في ظل عدم قدرة البلديات على التعامل مع آثار العاصفة وغياب المعدات اللازمة بسبب حجم الدمار الهائل في القطاع.

 

والآن، مع المنخفض الثاني الذي ضرب القطاع الثلاثاء 25 نوفمبر، غرقت عشرات الخيام الإضافية في منطقة المواصي بخان يونس وحي الزيتون بمدينة غزة، حيث وجدت مئات العائلات نفسها في العراء بلا متاع بعدما غمرت الفيضانات خيامهم المتهالكة. طواقم الدفاع المدني تتعامل مع مئات الخيام المغرقة، لكن قدراتها "معدومة" بحسب المتحدث محمود بصل، الذي أكد أنهم لا يمتلكون مضخات لسحب المياه، وأن المركبات تحتاج إلى وقود لا يتوفر.

 

أطفال يرتعدون برداً وأمهات عاجزات عن التدفئة

 

النازح مالك قويدر (39 عاماً) يقف عاجزاً أمام خيمة لم تعد تقي من البرد ولا المطر، بينما يتقافز طفلاه خوفاً من دفقات الماء المتسربة من السقف المهترئ. خلال دقائق تحول التراب إلى طين، وبدأت السيول تجري حول الخيمة، فانحنى السقف واستسلمت الجوانب واحدة تلو الأخرى. قويدر يحمل شوادر مبتلة في محاولة يائسة لإيقاف سيل المياه، لكن المعركة خاسرة مقدماً.

 

سائد عودة (43 عاماً) فتح عينيه على ارتجاف خيمته، وشعر بقطرات باردة تتسلل من السقف لتسقط على وجه طفله الملتف ببطانية لا تكاد تقيه شيئاً. حاول بيديه سد التمزقات التي ازدادت بفعل الرياح، لكن قطعة النايلون التي رُقعت عشرات المرات لم تعد تقاوم. "لا تدفئة، لا ملابس شتوية كافية، لا غذاء مناسب لأيام البرد، ولا مكان آمن يحتمي فيه الأطفال من العاصفة"، يقول عودة بألم.

 

حمدي عمر (35 عاماً) يقف عند مدخل خيمته المغمورة بالمياه، محاولاً فتح قنوات جانبية لتصريف المياه: "المطر لم يتوقف، والسقف صار مثل الغربال، حاولت تغيير مكان أولادي من زاوية لزاوية، لكن المياه كانت تسلك كل الاتجاهات". هاجسه الأكبر مرض أحد أطفاله الأربعة، فالملابس خفيفة، الخيمة ضعيفة، ومياه الأمطار تختلط بمياه الصرف الصحي التي تغرق كل شيء حولهم، والأدوية معدومة.

 

شوارع مدمرة ومياه عادمة ومخلفات قاتلة

 

الشوارع المدمرة التي تركها القصف الإسرائيلي تحولت إلى حفر وبحيرات من المياه، تحد من قدرة الناس على الحركة، بينما يتفاقم طفح المياه العادمة نتيجة تدمير البنية التحتية الكامل، ويختلط بالأمطار ليشكل خطراً صحياً قاتلاً يهدد الكبار والصغار. الدفاع المدني تلقى مئات البلاغات عن مخلفات إسرائيلية خطيرة جرفتها مياه السيول إلى مناطق مأهولة، ما يشكل خطراً إضافياً على حياة الأهالي.

 

آلاف المباني الآيلة للسقوط تهدد حياة الفلسطينيين جراء غزارة الأمطار، في ظل غياب أي قدرة على الإنقاذ أو الإصلاح. واستُشهد فلسطينيان ليلة الاثنين-الثلاثاء جراء انفجار جسم مشبوه من مخلفات الاحتلال داخل منزل بحي النصر تعرض للقصف خلال الحرب، كما أصيب أربعة آخرون في حادثين منفصلين بسبب مخلفات غير منفجرة.

 

قصف مستمر رغم المطر والبرد

 

في مفارقة مأساوية، لم توقف الأمطار الغزيرة والمنخفض الجوي القصف الإسرائيلي على القطاع. استُشهد فلسطيني في استهداف لمجموعة مواطنين في بلدة بني سهيلا شرقي خان يونس، فيما تواصلت عمليات نسف المنازل في المناطق الشرقية من مدينة غزة، حيث فجر جيش الاحتلال مبان سكنية في حي الشجاعية، وقصفت آلياته المدفعية المناطق الشرقية لخان يونس. الاحتلال الذي يحاصر القطاع ويمنع دخول مستلزمات الإيواء، يواصل قصف من تبقى من السكان تحت المطر والبرد.

 

الخلاصة: شتاء قد يكون الأقسى في تاريخ غزة

 

حذر مجد الشوا من أن الوضع "معقد وصعب"، وأن فصل الشتاء القادم قد يكون "الأقسى على الإطلاق في تاريخ قطاع غزة". مع اهتراء 300 ألف خيمة، ودخول 10% فقط من الاحتياج، واستمرار الحصار الإسرائيلي، وتدمير البنية التحتية بالكامل، وانتشار الأمراض بين الأطفال، وغياب المنظومة العلاجية، يواجه مئات الآلاف من الفلسطينيين احتمال الموت برداً أو جوعاً أو مرضاً أو تحت الأنقاض. صمود النازحين الذين يحاولون سد تمزقات خيامهم بشوادر مبتلة، وحماية أطفالهم من البرد ببطانيات لا تقي شيئاً، وتصريف المياه من خيام تحولت إلى مستنقعات، يواجه حصاراً قاتلاً وقصفاً مستمراً وعالماً لا يحرك ساكناً.