لم تعد الحرائق في مصر مجرد حوادث عابرة، بل أصبحت مؤشراً دامغاً على حجم التآكل والانهيار الذي أصاب مفاصل الدولة تحت حكم العسكر.

 

ففي يوم الجمعة، لم تكن ألسنة اللهب التي التهمت "ستوديو مصر" تحرق مجرد ديكورات خشبية لمسلسل تلفزيوني، بل كانت تحرق تاريخاً بأكمله، وتلتهم ذاكرة أمة، وتكشف للعالم أجمع عن عورة نظام لا يكترث إلا ببقائه، ولو كان الثمن هو تحويل كنوز مصر إلى رماد.

 

إن حريق هذا الصرح التاريخي، الذي أسسه طلعت حرب عام 1935 ليكون منارة للفن والقوة الناعمة، ليس إلا فصلاً جديداً في مسرحية الإهمال الممنهج والفشل الإداري الذريع الذي بات السمة الأبرز لسلطة الانقلاب. المشهد المروع لأعمدة الدخان وهي تتصاعد من أقدم استوديوهات الشرق الأوسط، بعد عام واحد فقط من احتراق "ستوديو الأهرام" المجاور، يصرخ بحقيقة واحدة: إنها ليست مصادفة، بل نتيجة حتمية لسياسة إعدام التراث وتدمير الهوية.

 

تاريخ يتحول إلى رماد.. مشهد مألوف للفشل

 

في تكرار كارثي ومخزٍ، اندلعت النيران في موقع تصوير داخل ستوديو مصر بالمريوطية، لتنطلق سيارات الإطفاء في محاولة يائسة للسيطرة على حريق كان يمكن منعه لو وُجدت ذرة من المسئولية.

 

الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت كالنار في الهشيم أظهرت حجم الكارثة، وأعادت إلى الأذهان على الفور فاجعة حريق "ستوديو الأهرام" العام الماضي. نفس السيناريو يتكرر بحذافيره: ديكورات مصنوعة من مواد سريعة الاشتعال، غياب فاضح لإجراءات السلامة الوقائية، وامتداد النيران لتهدد المباني المجاورة، مما يثبت أن النظام لم يتعلم أي درس من الكارثة الأولى، أو أنه ببساطة لا يهتم.

 

إن احتراق موقع تصوير مسلسل "الكينج" لمحمد إمام اليوم، وقبله ديكور مسلسل "المعلم" لمصطفى شعبان، يؤكد أن هذه المواقع التاريخية تحولت في عهد الانقلاب إلى قنابل موقوتة، تنتظر فقط شرارة الإهمال لتنفجر، مدمرةً معها ليس فقط استثمارات المنتجين، بل إرثاً لا يقدر بثمن.


 

أين الدولة؟.. سؤال يشتعل أعلى من النيران

 

أمام هذا المشهد المتكرر، يفرض السؤال نفسه بقوة: أين أجهزة الدولة؟ أين هيئات الرقابة والحماية المدنية التي يفترض بها أن تفرض معايير سلامة صارمة على مواقع بهذا الحجم وهذه الأهمية التاريخية؟ إن وصول سيارات الإطفاء بعد اشتعال الحريق هو اعتراف صريح بالفشل، لأن دور الدولة الحقيقي يجب أن يكون وقائياً، عبر التفتيش الدوري والتأكد من تطبيق أكواد الحريق ومنع تخزين المواد الخطرة.

 

لكن ما يحدث هو العكس تماماً؛ فمنظومة الحكم الحالية، المنشغلة بقمع المعارضين وبناء السجون والكباري الخرسانية، قد أسقطت من حساباتها تماماً حماية التراث الثقافي والفني. إن المقارنة بين المليارات التي تُنفق على مشاريع دعائية فاقدة للجدوى، وبين الإهمال الذي يضرب صروحاً تاريخية مثل ستوديو مصر، تكشف عن خلل عميق في أولويات سلطة ترى في الثقافة والفن تهديداً وليس مصدر قوة.

 

أبعد من الرماد: حرب على قوة مصر الناعمة وهويتها

 

إن حريق ستوديو مصر ليس مجرد خسارة مادية، بل هو اغتيال ممنهج لذاكرة مصر الفنية وجزء أصيل من قوتها الناعمة التي حكمت المنطقة لعقود. هذا الاستوديو، الذي كان حلماً وطنياً لطلعت حرب، ومصنعاً لنجوم وأفلام شكلت وعي أجيال من المحيط إلى الخليج، يُترك اليوم فريسة للإهمال والحرائق. إنها رسالة واضحة من نظام لا يفهم قيمة الفن ولا يعي معنى التاريخ.

 

فالسلطة التي تخشى الكلمة والصورة، والتي تعمل على تجريف العقول، من الطبيعي أن تتهاون في حماية القلاع التي أنتجت هذه الكلمات والصور. كل عمل فني تم تصويره بين جدران هذا المكان، وكل نجم انطلق منه، وكل قصة رُويت فيه، هي جزء من هوية مصر التي تتعرض اليوم للتدمير المادي والمعنوي. لم يعد الحريق مجرد حادث، بل بات رمزاً لحكم يحرق تاريخ أمته وقوتها الناعمة، تاركاً خلفه الرماد والخراب كشاهد أبدي على حقبة سوداء من تاريخ مصر.

 

يذكر أن ستوديو الأهرام العريق شهد حريقاً ضخماً العام الماضي ما شكل صدمة كبيرة للمصريين، حيث اندلعت النيران بديكور مسلسل "المعلم" للفنان مصطفى شعبان، وامتدت لتلتهم كل ما في موقع التصوير من ديكورات وأخشاب، وامتدت النيران إلى مبانٍ سكنية مجاورة ضمت 10 عقارات تضم 46 وحدة سكنية، منها 19 وحدة أُحرقت كلياً والبقية جزئياً.

 

أقدم استوديوهات التصوير في الشرق الأوسط

 

ويعد استوديو مصر أقدم وأشهر ستوديوهات التصوير في مصر والشرق الأوسط، حيث تأسّس عام 1935 بتمويل من طلعت حرب، وكان بمثابة أول مصنع أفلام متكامل في مصر والمنطقة العربية، بعد أن كانت السينما قائمة على جهود فردية واستوديوهات بدائية، بعد إنشائه، أصبح "ستوديو مصر" مركزاً لصناعة السينما المصرية، حيث نقل مركز الإنتاج من استوديوهات صغيرة متناثرة في القاهرة أو الإسكندرية إلى مكان واحد، ما مكن صناع السينما من إنتاج الأفلام بشكل منتظم واحترافي.