يبدو في ظاهر المشهد أن دونالد ترامب يوجّه صفعة سياسية لإسرائيل حين يخرج محذرًا إياها من «زعزعة استقرار سوريا» أو «عرقلة انتقالها السياسي وتطورها إلى دولة مزدهرة». لكن قراءة أعمق لطبيعة الخطاب الأميركي، ولسياق التحذير وزمنه ولغته، تكشف أن ما يجري ليس انحيازًا حقيقيًا لسوريا ولا احترامًا لسيادتها، بل إدارة دقيقة لمسرح النفوذ في المشرق: رسالة ضبط لإسرائيل حتى لا تفسد مشروعًا إقليميًا واسعًا تريد واشنطن هندسته، يكون السوريون فيه مجرّد ورقة ضمن صفقة أكبر، لا طرفًا حرًا يقرر مصيره.

 

ترامب لا يتحدث عن احتلال الجولان، ولا عن عشرات السنين من القصف الإسرائيلي للأراضي السورية، ولا عن حق السوريين في استرداد أرضهم ومحاسبة من قتلهم وشرّدهم. كل ما يشغله في خطابه هو «ألا يحدث شيء يعرقل تطور سوريا إلى دولة مزدهرة» وفق النموذج الذي ترسمه إدارته: سلطة جديدة مقبولة أميركيًا، مخفَّف عنها جزء من العقوبات، مندمجة اقتصاديًا وأمنيًا في شبكة إقليمية تقودها واشنطن وتضمن أمن إسرائيل. هذا هو جوهر الفكرة: الاستقرار قبل العدالة، وترتيبات ما بعد الحرب قبل حقوق الضحايا، و«الازدهار» بمقياس البيض الأبيض والبنوك، لا بمقياس حرية الشعوب وكرامتها.

 

حين يطالب ترامب إسرائيل بالحفاظ على «حوار قوي وصادق» مع دمشق، فكأنه يقول لتل أبيب: توقفي عن الضربات الطائشة وعمليات التوغّل التي قد تُسقط النظام الجديد في دوامة فوضى، لأن واشنطن استثمرت في هذه التركيبة السياسية ولا تريد لها أن تنهار. التحذير ليس رفضًا مبدئيًا للقصف ولا انتهاك السيادة، بل اعتراض على التوقيت والشكل والجرعة: اضربي حيث نشير، وتوقفي حين نلوّح، ولا تحاولي رسم قواعد اشتباكك منفردة في ساحة تعتبرها الإدارة الأميركية اليوم «ملفًا قيد الهندسة» لا ملعبًا لتهورات نتنياهو.

 

الرسالة الحقيقية إذن موجهة لنتنياهو أكثر مما هي موجّهة لإسرائيل كدولة. الإدارة الأميركية، وفق هذا المنطق، ترى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يبالغ في استخدام القوة داخل سوريا بما يهدد بتحويل النظام الجديد إلى خصم لا إلى شريك. وبالتالي، يأتي التحذير في صيغة دفاع عن «فرصة تاريخية» لاتفاق أمني بين دمشق وتل أبيب، لا دفاعًا عن المدنيين السوريين. ما يقلق ترامب ليس دماء السوريين بقدر ما يقلقه أن تفلت من يده «لحظة دبلوماسية نادرة» يمكن أن تُسجَّل في رصيده كرئيس صنع ترتيبات جديدة بين إسرائيل ودولة عربية أخرى، بعد صفقات سابقة مع دول التطبيع.

 

في خلفية هذا الخطاب، يحرص ترامب على تسويق نفسه بوصفه مهندسًا لمرحلة «ما بعد الأسد». يشيد بالرئيس الحالي، يصفه بالجاد والمصمم على إعادة البناء، يتحدث عن «إنهاء عقوبات قاسية» ساعدت سوريا على التقاط أنفاسها، ويرسم صورة لبلد يتجه تدريجيًا نحو «الازدهار» تحت رعاية أميركية حكيمة. هذه اللغة ليست بريئة؛ فهي محاولة لطيّ صفحة حرب طويلة وجرائم ضخمة بتلميع الحاضر، وإقناع الرأي العام بأن واشنطن تصحح أخطاء الماضي وتفتح الباب أمام تعافٍ تدريجي، بينما الحقيقة أن بنية السلطة والأمن والاقتصاد في سوريا ما زالت أبعد ما تكون عن أن تكون مستقلة أو ديمقراطية أو عادلة.

 

من منظور نقدي سوري وعربي، يُخشى أن يكون المقصود من «عدم عرقلة تطور سوريا» هو عدم عرقلة دمج سوريا في محور إقليمي جديد: تفاهمات أمنية مع إسرائيل على الحدود والجولان، تنسيق في ملفات الميليشيات واللاجئين والحدود، وفتح تدريجي لأبواب الاستثمار والنفط والغاز، في إطار منظومة أوسع تشمل ترتيبات في غزة ولبنان والعراق. بهذا المعنى، يجري التعامل مع سوريا كساحة يجب تحييدها عن الصراع المفتوح، لا كساحة تحتاج إلى عدالة انتقالية حقيقية تقطع مع الاستبداد والفساد والقتل الجماعي.

 

أما فلسطين، فهي الغائب الأكبر في خطاب ترامب. لا إشارة جادة لغزة المحاصرة، ولا لجرائم الاحتلال المتواصلة، ولا لحق الفلسطينيين في التحرر. كل شيء متمحور حول «استقرار» سوريا و«أمن» إسرائيل و«فرصة الاتفاق الأمني». كأن الشعب الفلسطيني مطالَب بالصمت مرة أخرى أمام سيناريو جديد تُمنح فيه إسرائيل مزيدًا من الضمانات الأمنية في جبهة الشمال مقابل «مكافأة» محدودة لسوريا في صورة رفع بعض العقوبات أو فتح تدريجي للأبواب العربية أمامها. إنها إعادة إنتاج لمنطق «السلام الاقتصادي» و«الاستقرار أولاً» الذي يمنح الاحتلال كل أسباب القوة ويترك الشعوب تحت أنقاض حروب لم يخترْنها.

 

هذا لا يعني أن انتقاد ترامب لإسرائيل بلا معنى تمامًا؛ فالتحذير العلني من حليف بحجم الولايات المتحدة يكسر، ظاهريًا، صورة إسرائيل كطرف فوق المساءلة ولا يخضع حتى لعتاب واشنطن. لكنه، في جوهره، ليس كسرًا لتحالف استراتيجي ولا إعادة تعريف لعلاقة القوة، بل محاولة لمنع الحليف من الإضرار بمصالح الراعي. مثل مدير شركة يوبّخ شريكًا فرعيًا لأنه يضيّع صفقة أكبر، لا لأنه ارتكب جريمة أخلاقية أو قانونية.

 

المفارقة أن كثيرًا من الإعلام الغربي سيقدّم هذا التحذير كدليل على «توازن» ترامب و«استقلاليته» في التعاطي مع إسرائيل، بينما يتجاهل أن الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي لتل أبيب مستمر بلا شروط حقيقية، وأن الولايات المتحدة لم تلوّح، ولو لمرة واحدة، بقطع مساعدات أو فرض عقوبات إن استمرت الغارات داخل سوريا أو غزة أو لبنان. كل ما في الأمر أن واشنطن تريد أن تبقى صاحبة اليد العليا في رسم حدود النار وحدود التهدئة، وأن تذكّر تل أبيب بأن «الفيتو» النهائي على الحرب الشاملة أو التصعيد المفتوح ما زال موجودًا في البيت الأبيض.

 

وأخيرا فإن تحذير ترامب لإسرائيل من «إزعاج» سوريا قد يبدو للبعض تحوّلًا إيجابيًا في الخطاب الأميركي، لكنه في الحقيقة استمرار لسياسة جوهرها التحكم لا التحرر، وإدارة الأزمات لا إنهاؤها، وتثبيت أنظمة ما بعد الحرب لا إنصاف الضحايا. ما يُراد لسوريا ليس أن تستعيد استقلال قرارها بالكامل، بل أن تصبح دولة «قابلة للإدارة» في نظام إقليمي جديد، وما يُطلب من إسرائيل ليس وقف العدوان، بل ضبط إيقاعه بما لا يهدد هذا النظام. في هذه المعادلة، يبقى الشعب السوري، ومعه الشعب الفلسطيني، آخر من يُسأل عن رأيه، وأول من يدفع ثمن «الاستقرار» الذي تفاوض عليه القوى الكبرى فوق ركام المدن والذاكرة والدم.