منذ اللحظة التي شق فيها ديليسبس رمال البرزخ، لم تكن قناة السويس يوماً مجرد ممر مائي، بل كانت ولا تزال ميزاناً حساساً يحدد لمن تكون الكلمة العليا في الإقليم. كل قوة مرت من هنا تركت ظلها، وكل حروبنا دارت لأجل هذا الشريان الأزرق. واليوم، تعود القناة لواجهة الصراع، ليس عبر احتلال عسكري كعام 1956، بل عبر "احتلال اقتصادي" يتغلغل في الجسد كالسرطان، وهو أشد فتكاً؛ لأنه يأتي تحت لافتات براقة من "التطوير" و"الشراكة"، بينما يخفي في طياته إعادة رسم لمصير المنطقة بأكملها.

 

محطات الوقود.. بوابة خلفية للسيادة

 

القرار الأخير بإنشاء محطات تموين للسفن في القناة بقيمة مليار دولار ليس قراراً "فنيا" أو "تطويريا" كما تروج اللغة الرسمية. إنه يفتح باباً واسعاً لأسئلة تمس جوهر السيادة قبل الاقتصاد. في مشروع كهذا، الهدف ليس مجرد بيع الوقود، بل هو: من يملك الخدمة؟ ومن يتحكم في عصب الملاحة البحرية التي تمر منها 12% من تجارة العالم؟

 

مشكلة هذا المشروع ليست في المليار دولار، بل في أن من يملك محطة الوقود اليوم، قد يمتلك قرار الحركة غداً. وعندما يستيقظ المصريون ليجدوا أن خدمات قناتهم التي دفعوا ثمنها دماءً قد أصبحت ورقة في يد شركة أجنبية أو صندوق سيادي، نكون قد وصلنا إلى مرحلة الخطر الحقيقي.

 

مشروع الرئيس محمد مرسي.. الفصل الذي يحاولون نسيانه

 

ما يحدث اليوم ليس جديداً، بل هو استعادة لفصل تاريخي حاولت قوى الإقليم طمسه. قبل اثني عشر عاماً، عندما طرح الرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي مشروعه لتنمية محور القناة، لم يكن يطرح مجرد منطقة لوجستية، بل كان يعيد صياغة توازنات القوة في المنطقة. مشروع مرسي كان يهدف لجعل القناة مركزاً للتصنيع والخدمات، وهو ما كان سيجعل من الممر المصري منافساً مدمراً لمنطقة "جبل علي".

 

حينها، انتفضت الإمارات وكل الموالين لها؛ لأنهم أدركوا أن نجاح هذا المشروع بأيادي مصرية خالصة يعني تهديداً مباشراً لأمنهم الاقتصادي وقوتهم التجارية. لذلك، تحركت الإمارات بكل ثقلها لدعم الانقلاب، لأن "المنافسة" في عرفهم كانت خطيئة لا تُغتفر، وهو ما كشفته الوثائق والوقائع لاحقاً.

 

لماذا تصمت الإمارات اليوم؟.. اللغز المكشوف

 

السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تصمت الإمارات اليوم عن نفس المشاريع التي حاربتها بالأمس؟ الإجابة في منتهى الوضوح: لأن ما يعرضه النظام الحالي ليس مشروعاً قومياً منافساً، بل هو مشروع "استثماري" تكون فيه الإمارات شريكاً ومالكاً.

 

الإمارات لم تعد تخشى إزاحة "جبل علي"، لأنها ببساطة أصبحت جزءاً من إدارة القناة، أو مالكة لأصولها، أو شريكاً رئيسياً في عوائدها. حين يتحول المشروع من "منافس" إلى "ذراع"، ومن "تهديد" إلى "استثمار"، ينتهي الخوف ويبدأ الصمت. النظام الحالي حول "الخطر" إلى "فرصة" للكفيل، فباتت الإمارات تمتلك حق الفيتو غير المعلن في التصميم والتشغيل.

 

اقتصاد مقيد.. وشيكات على بياض

 

الدولة اليوم تبحث عن "دولارات عاجلة" تحت ضغط أزمتها، والخليج يملك "الفائض المالي" والرغبة في السيطرة. عندما يلتقي العطش بالوفرة، تتولد صفقات تبدو استثمارية لكنها في الحقيقة توزيع جديد للسلطة. القناة ليست أرضاً عقارية تُباع وتُشترى، بل هي شريان سيادي. لكن تحت ضغط الحاجة للسيولة، يصبح كل شيء قابلاً للتفاوض، من أسعار الخدمات إلى حدود النفوذ.

 

القرار الاقتصادي الذي يُتخذ اليوم تحت ضغط الحاجة، سيتحول مع الزمن إلى واقع سياسي لا يمكن التراجع عنه، لنجد أنفسنا أمام شراكة ممتدة تتجاوز عمر الحكومات.

 

الشعب يدفع الثمن

 

في النهاية، الشعب هو من يدفع الثمن. المشاريع التي تُبنى بالديون تُسدد من جيوبه، والمشاريع التي تُخصخص تُفقده ملكية مرافقه، والمشاريع التي تُسلم للخارج تُقيد سيادته. نظل نسير في دوائر مفرغة، حيث تتحول مشاريعنا القومية إلى أدوات للتحكم الأجنبي بنا.

 

ويبقى السؤال الذي يطرحه النص ولا يجد إجابة لدى النظام: هل كانت مصر بحاجة إلى محطات تموين.. أم كانت المحطات (ومن يقف خلفها) هي التي بحاجة إلى مصر؟