في مشهد يدمي القلوب ويلخص مأساة وطن باتت فيه حياة الإنسان أرخص من تذكرة مباراة، شيع المئات من أهالي بورسعيد جثمان السباح الطفل يوسف محمد، الذي راح ضحية منظومة رياضية متهالكة وفاسدة، لا ترى في الأطفال سوى أرقام في سجلات البطولات الوهمية.

 

دموع الأسرة وصرخات الزملاء في مسجد الكريم لم تكن مجرد وداع لراحل، بل كانت إدانة صريحة لنظام كامل تلطخت يداه بدماء البراءة. في "الجمهورية الجديدة" المزعومة، يغرق الأطفال في بطولات الجمهورية الرسمية، ليس بسبب قلة المهارة، بل بسبب انعدام الضمير وغياب أبسط قواعد الأمان

 

 

صرخة أب مكلوم: "بالله عليكم ما تسيبوا حقه"

 

لم يستطع والد يوسف أن يقف على قدميه من هول الصدمة، لكن صوته المبحوح بالوجع كان أقوى من كل بيانات الوزارة الكاذبة. نداؤه للمصريين: "بالله عليكم ما تسيبوا حقه"، هو استغاثة من يدرك يقيناً أن الدولة ستسعى لدفن القضية كما دفنت ابنه.

 

 

ويطرح الأب - الذي يرى فلذة كبده يخرج جثة هامدة من مسبح رسمي - سؤالاً يتهرب منه الجميع: "هل أولادنا ملهمش تمن في الدولة دي؟". إنه سؤال يكشف الحقيقة المرة: في ظل حكم العسكر، المواطن "بلا ثمن"، وحقوقه "بلا حارس"، وحياته مستباحة للإهمال والفساد.

 

 

أشرف صبحي.. وزير "الكوارث" والهروب

 

الحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في عهد وزير الشباب والرياضة، أشرف صبحي، الذي تحولت ولايته إلى سجل حافل بالكوارث: من وفاة لاعبين، إلى هروب أبطال، إلى فساد مالي وإداري ينخر في عظام الاتحادات.

 

 

كما أشار المواطنون، لا يوجد أي رد فعل حقيقي من الدولة تجاه هذا الفشل المتراكم. الوزير الذي يجيد الظهور في "اللقطات" والافتتاحات، يختفي تماماً عند الكوارث، أو يكتفي ببيانات روتينية "لغسل اليدين". إن بقاء هذا الوزير في منصبه رغم كل هذه الدماء هو دليل قاطع على أن الفساد في مصر محمي من أعلى مستوى، وأن المحاسبة غائبة طالما الضحية مواطن بسيط

 

 

اتحاد "السباحة" أم اتحاد "الغرق"؟.. القاتل هو الحكم!

 

المفارقة التي تفجر العقول وتكشف عمق المستنقع، هي ما ذكره الناقد الرياضي علاء عزت: رئيس اتحاد السباحة المسؤول عن تنظيم البطولة الكارثية التي غابت عنها قواعد السلامة، هو نفسه رئيس اللجنة الأولمبية المصرية! في أي دولة تحترم نفسها، كان يجب أن يُقال هذا المسؤول ويُحاكم فوراً.

 

 

لكن في مصر، المسؤول الفاشل يُرقى ويُحمى. كيف لبطولة رسمية بحجم بطولة الجمهورية أن تخلو من رعاية صحية حقيقية أو مسعفين محترفين؟ الإجابة بسيطة: لأن الميزانيات تُصرف على "الوجاهة" والمكافآت، وليس على حياة الأطفال. إنها جريمة مكتملة الأركان، والجاني فيها ليس فقط من أهمل، بل من عيّن وأبقى على هؤلاء الفاسدين في مناصبهم

 

 

"إحالة للنيابة".. مسكنات لامتصاص الغضب

 

وكالعادة، تلجأ السلطة للحل السحري: "إحالة الملف للنيابة".

 

هذه الخطوة، كما يراها الكثيرون، ليست سوى محاولة لامتصاص غضب الشارع وتنويم القضية حتى ينسى الناس.

 

 

الجميع يغسل يده بالإجراءات الورقية، بينما الحقيقة واضحة وضوح الشمس: هناك طفل مات لأن هناك مسؤولاً لم يقم بواجبه، وحكماً لم يراقب الحارة، ومسعفاً لم يتواجد. التحقيقات التي لا تنتهي بمحاسبة الرؤوس الكبيرة هي مجرد "مسرحية" أخرى. المأساة تتكرر بنفس التفاصيل ونفس الأسباب، والنتيجة واحدة: أطفالنا يموتون، والمسؤولون باقون على كراسيهم

 

 

دولة بلا ضمير

 

وفاة يوسف محمد ليست قضاءً وقدراً، بل هي نتاج طبيعي لمنظومة "إهمال وغياب ضمير" كما وصفتها الشهادات. عندما تصبح مخالفة بـ 100 جنيه سبباً لحل اتحاد، بينما موت طفل يمر بـ "تحقيق"، ندرك أننا نعيش في دولة مقلوبة الموازين. دماء يوسف في رقبة كل من صمت على الفساد الرياضي، وكل من برر للفشل، وكل من قبل بأن يدير أرواح أبنائنا مجموعة من الهواة والفاسدين. لن يجف دم يوسف إلا باقتلاع هذه المنظومة الفاسدة من جذورها، وإلا فانتظروا يوسف آخر في بطولة قادمة