لم تكن المجازر التي شهدتها مدينتا الفاشر والجنينة في إقليم دارفور السوداني مجرد تداعيات فوضوية لحرب أهلية، بل كانت "عملية إبادة صناعية" مُنظمة وممولة بالكامل، تحمل بصمات الجاني الحقيقي الذي يقف خلف ستار مليشيا الدعم السريع. في واحدة من أخطر الشهادات التي قُدمت في الأروقة الأكاديمية والسياسية مؤخراً، كشف الباحث الأميركي ناثانيال رايموند، المدير التنفيذي لمعمل البحوث الإنسانية بجامعة ييل، عما يمكن وصفه بـ"هولوكوست القرن الحادي والعشرين" في السودان.
الشهادة التي ألقاها رايموند في جامعة هارفارد لم تكتفِ بسرد المأساة، بل قدمت أدلة جنائية عبر الأقمار الصناعية تثبت أن ما حدث لقبائل المساليت والزغاوة كان إبادة جماعية مع سبق الإصرار والترصد، نُفذت بأسلحة وعتاد ودعم لوجستي لا يمكن لمليشيا رعوية توفيره دون ظهير دولة نفطية ثرية مثل الإمارات العربية المتحدة، التي حولت دارفور إلى مسرح مفتوح لتصفية الحسابات وتمرير أجندات الهيمنة الإقليمية على جثث الأبرياء.
سقوط الفاشر: حينما تحول "المال الإماراتي" إلى رصاص يحصد 10 آلاف روح
في تفاصيل تصيب النفس البشرية بالذهول، كشف رايموند عن التسلسل الزمني لسقوط مدينة الفاشر، وهو سيناريو لا يعكس مجرد تفوق عسكري، بل يعكس تدفقاً هائلاً للسلاح والذخيرة لم ينقطع عن مليشيا الدعم السريع. بدأت المأساة بمقتل 1200 مدني خلال ساعات قليلة، في حصيلة أولية سرعان ما قفزت إلى رقم فلكي مرعب بلغ 10 آلاف قتيل في وقت قياسي، قبل أن ينقطع الاتصال تماماً عن المدينة.
هذا "الإفراط في القتل" والقدرة على مواصلة القصف والهجوم بلا هوادة، يطرح تساؤلاً واحداً إجابته معروفة: من أين لمليشيا معزولة دولياً أن تمتلك مخزوناً لا ينفد من القذائف والراجمات؟ تشير الدلائل الميدانية وتقارير الخبراء إلى الجسر الجوي الذي أقامته الإمارات عبر مطارات دول الجوار (مثل تشاد)، والذي كان بمثابة "شريان الحياة" لآلة القتل، مما حول شوارع الفاشر إلى مقابر جماعية مفتوحة، حيث اختفت عائلات بأكملها من السجلات المدنية ومن على وجه الأرض.
"صندوق القتل" والأسوار الترابية: هندسة إماراتية لإبادة الزغاوة والمساليت
لعل أخطر ما كشفته صور الأقمار الصناعية التي عرضها فريق "ييل" هو المستوى المتقدم من التخطيط العسكري الذي لا يتناسب مع عشوائية المليشيات، بل يشير إلى وجود مستشارين وخبراء عسكريين يديرون المشهد من الخلف. لقد قامت قوات الدعم السريع ببناء "جدار ترابي" ضخم بارتفاع 9 أقدام وبطول 37 كيلومتراً حول الفاشر، محوّلة المدينة وسكانها إلى ما وصفه الباحث بـ"صندوق قتل" (Kill Box).
هذا التكتيك العسكري، الذي يهدف لحصار الضحية ومنع أي مفر لها ثم الانقضاض عليها للإبادة التامة، يُظهر النية المبيتة للتطهير العرقي. رصدت الأقمار الصناعية جثثاً بالآلاف متناثرة بوضعيات (C) و(J) و(L)، وهي وضعيات تدل على السقوط الفوري نتيجة إطلاق النار من مسافة قريبة جداً، أو ما يعرف بـ"الإعدام الميداني". إن هذا النمط من القتل الممنهج للزغاوة والمساليت لم يكن ليحدث لولا الغطاء السياسي والمالي الذي وفرته أبوظبي، التي يبدو أنها منحت "الضوء الأخضر" لعملائها في السودان لتغيير الديموغرافيا الدارفورية بالدم والنار.
أسوأ من "ستالينغراد": تجويع ممنهج بغطاء سياسي من أبوظبي
في مقارنة تاريخية مرعبة، أكد رايموند أن حصار الفاشر استمر 18 شهراً، متجاوزاً في قسوته ومدته حصار ستالينغراد ولينينغراد في الحرب العالمية الثانية. عاش السكان تحت تصنيف المجاعة (IPC5) لمدة 15 شهراً، وهو مستوى كارثي يعني الموت البطيء.
طوال هذه الفترة، كانت الإمارات تمارس دوراً مزدوجاً ومفضوحاً؛ فبينما تتشدق في المحافل الدولية بالعمل الإنساني، كانت أسلحتها تتدفق للمليشيا التي تمنع الغذاء والدواء عن المحاصرين. لقد كانت استراتيجية "التجويع حتى الموت" جزءاً من الخطة الممولة إماراتياً لكسر إرادة السكان الأصليين، حيث استُخدم الجوع كسلاح دمار شامل يوازي في فتكِه الراجمات والمدافع التي دكت المنازل فوق رؤوس ساكنيها.
الجنينة تحترق: تصفية والي غرب دارفور واصطياد الأطفال كفريسة
لم يتوقف الإجرام عند حدود الحصار، بل وصل إلى مستويات سادية في مدينة الجنينة. وثّق فريق البحث الأميركي كيف أشعل اغتيال والي غرب دارفور، خميس أبكر—الذي قُتل وتم التمثيل بجثته على يد عناصر الدعم السريع—موجة من التطهير العرقي من بيت إلى بيت.
وبدقة متناهية، كشفت تحليلات الصور عن الفظائع التي طالت الأطفال؛ حيث وجد الفريق أن متوسط أطوال الجثث المكدسة كان يشير إلى أطفال وفتيان لا تتجاوز أطوالهم 1.3 متر. لقد تم اصطياد الأطفال والرجال من قبيلة المساليت وكأنهم طرائد، في مشهد يعيد للأذهان أسوأ جرائم الإبادة في التاريخ. كما رصدت أقمار ناسا الحرارية احتراق قرية "سِربا" بالكامل، بعد استخدام تكتيك "القنص الجماعي" وحشر السكان في كمائن الموت، وكل ذلك يتم بأسلحة وذخائر مدفوعة الثمن من خزائن الدولة الخليجية الراعية للفوضى.
واشنطن علمت وصمتت: هل اشترت الإمارات "الصمت الدولي" بدماء السودانيين؟
تضع شهادة رايموند الإدارة الأميركية والأمم المتحدة في قفص الاتهام إلى جانب الجاني المباشر. فقد أرسل فريق "ييل" تحذيرات سرية وموثقة للبيت الأبيض ومجلس الأمن قبل عامين ونصف من وقوع الكارثة، محذرين من أن الفاشر ستكون الهدف التالي. لكن، ورغم دقة المعلومات، لم يتحرك أحد.
هذا الصمت الدولي المريب يطرح تساؤلات مشروعة حول نفوذ "اللوبي الإماراتي" في واشنطن ونيويورك. هل تم شراء الصمت الدولي؟ هل كانت المصالح الاقتصادية والسياسية مع أبوظبي أهم من أرواح عشرات الآلاف من السودانيين؟ إن تجاهل التحذيرات، والسماح بتدفق السلاح عبر الحدود المفتوحة، يجعل من المجتمع الدولي شريكاً بالتواطؤ في هذه الجريمة، ويؤكد أن الإمارات نجحت في تأمين غطاء دبلوماسي لجرائم وكلائها على الأرض.
الإمارات شريكٌ في الدم، لا مجرد داعم
إن ما كشفته شهادة ناثانيال رايموند يزيل أي شكوك متبقية: ما حدث في دارفور ليس حرباً أهلية عبثية، بل هو مشروع استعماري جديد بأدوات محلية وتمويل إماراتي. الدعم السريع ليست سوى البندقية، لكن الأصبع الذي يضغط على الزناد، والعقل الذي يمول ويهندس، واليد التي توفر الغطاء السياسي، تمتد جذورها إلى أبوظبي. إن دماء أطفال المساليت، وجثث الزغاوة المتفحمة، ودمار الفاشر والجنينة، ستظل وصمة عار أبدية تلاحق حكام الإمارات، وتستوجب محاكمة دولية ليس فقط للمنفذين، بل للممولين الذين جعلوا من ثرواتهم وبالاً على شعوب المنطقة.

