أحمد عويدات
باحث فلسطيني ورئيس وحدة التطوير المهني في وكالة الأونروا
مع حلول الذكرى السنوية الأولى لعملية «ردع العدوان» التي قامت بها قوات المعارضة السورية، وبعد مرور عام على تحرير سوريا، وفي غمرة احتفال الشعب السوري بسقوط نظام الطاغية، الذي يصادف الثامن من ديسمبر، ولم تفرغ بعد قوى الثورة من تنظيف البلاد من براثن الإجرام والقتل والدمار لآل الأسد وأزلامهم، ما زالت دولة الكيان الإسرائيلي تشن اعتداءاتها المفتوحة وتوغلاتها المستمرة على الأراضي السورية، والتي أشبه ما تكون بحرب استنزاف متقطعة ضد النظام الوليد، الذي أعاد الكرامة والحرية لشعبٍ افتقدها طيلة 54 عاما من حكم الطغاة والديكتاتورية والقمع والاضطهاد والقتل والاعتقال والتدمير، ولم تكتف دولة الكيان بتدمير ما تبقى من مقدّرات البلاد الاقتصادية والعسكرية، التي لم يبق منها النظام البائد إلا القليل؛ إمعانًا في زيادة التحديات والمعيقات أمام نهوض الإدارة الجديدة بالبلاد، وبدء مرحلة التعافي وإعادة الإعمار، بل عمدت دولة الكيان المارقة إلى تحريك مُشغلاتها المحلية من فلول النظام الساقط، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية في الساحل السوري أولا، وفي السويداء ثانيا، وفي الشمال الشرقي ثالثا تحت مسمى حماية «الأقليات»، ودفعهم نحو التقسيم والانفصال عن الدولة السورية، بعد أن وجدت شرذمة قليلة من هؤلاء تتماهى مع مصالحها وأهدافها؛ وهذا ما ظهر مؤخرًا عندما تم رفع صور نتنياهو إلى جانب صور الشيخ الهجري، وأعلام «إسرائيل» إلى جانب العلم الانفصالي لميليشيا الهجري. إذن ما الذي ترمي إليه «إسرائيل»؟
إن تحليل أية خطوة تُقدم عليها دولة الكيان، يتطلب دائما العودة إلى الأيديولوجيا التي تسير وفقها الحكومات المتعاقبة لهذه الدولة، والتي في صلبها تحمل أهدافًا عدوانية توسعية إحلالية وعنصرية؛ فعندما يصرح نتنياهو أكثر من مرة، «أننا نقاتل على سبع جبهات»، فإنه يدرك تماما ما يسعى إليه، وهو القائل «إني غيّرت وجه الشرق الأوسط». وعندما لا يكف وزراؤه اليمينيون عن التصريح بأطماعهم التوسعية بضم الضفة واحتلال غزة، ويكتب مئير بن شبات رئيس الأمن القومي الإسرائيلي، ورئيس الشاباك سابقا، في مقالته في صحيفة «إسرائيل هيوم»: «أن هناك الكثير من العمل العسكري يجب القيام به بعد غزة، يطال ما بعد نهر الأردن والجولان»، يتضح الهدف الاستعماري الذي يهدف نتنياهو وقادة الكيان إلى تحقيقه، وهو ما أعلن عنه مرارًا وتكرارًا بإقامة «إسرائيل الكبرى»، من خلال إنشاء «ممر داوود»، الذي يمر بالجولان السورية، ويقطع محافظتي درعا والسويداء، ويتجه شرقا وشمالا، متجاوزا قاعدة التنف في بادية الشام، وصولا إلى حدود العراق والأردن؛ لاحتلال أجزاء منه والتوسع إلى وسط السعودية والكويت.
إن ما تقوم به دولة الكيان في سوريا هو سيناريو آخر لما تقوم به من اعتداءات في الضفة الغربية، من خلال إطلاق قطعان المستوطنين للاعتداء على الأهالي والممتلكات والأشجار؛ بهدف زيادة معاناة الشعب الفلسطيني هناك. وما يجري في قطاع غزة بعد خطة ترامب المتعثرة، إلا سيناريو آخر يؤكد النزعة العدوانية والانتقامية والتوسعية، التي هي في صلب الأيديولوجيا الصهيونية، وإن اختلفت الجغرافيا والأدوات، وهذا ينطبق أيضا على الاعتداءات المتكررة التي تشنها في لبنان، إذ لا يمر يوم إلا نشهد اعتداءات، وعمليات اغتيال للمواطنين تحت ذريعة أنهم من رجال حزب الله.
إن ما يريده نتنياهو من جرّاء ذلك هو، العزف على وتر الانتخابات المقبلة، وتسويق نفسه كملهمٍ ومحققٍ للانتصارات في معركة وجود الكيان وسط محيط من الكراهية والعداء، ويهدف إلى إضعاف السلطة في سوريا، في إطار احتلال أجزاء جديدة من البلاد بلغت حتى الآن نحو (450) كم²، وجر سوريا الجديدة بقيادتها الحكيمة، التي تسعى بكل تحركاتها ودبلوماسيتها لعدم إعطاء الفرص لحكومة نتنياهو، لافتعال اشتباك معها يعطيها المبررات لقضم المزيد من الأراضي السورية والتوسع، وعدم القبول بتوقيع تفاهمات أمنية فقط؛ تحت ذريعة الحاجة إلى منطقة عازلة لإزالة أي تهديدٍ محتملٍ «للجهاديين الجدد» في سوريا. إن نتنياهو يريد الذهاب أبعد من ذلك، وهو التنصل من اتفاقية فصل القوات عام 1974، وخلق واقع جيو سياسي جديد؛ يجبر الدولة الجديدة على توقيع اتفاقات سلام جديدة؛ تتنازل بموجبها الدولة عن هضبة الجولان المحتلة منذ عام 1967، والتي تنازل عنها حافظ الأسد، بموجب اتفاقات سرية تنال من سيادة وكرامة سوريا وشعبها الأبي، الذي دفع ثمن حريته مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والمفقودين، وتدميرا شاملا لكل البنى التحتية الخدمية والاقتصادية والعلمية، وتدمير كل ما تملك البلاد من عتاد وأسلحة. ومن الأهداف التي تسعى دولة الكيان إلى تحقيقها أيضا إلحاق سوريا بقطار التطبيع العربي والاتفاقات الإبراهيمية؛ وبالتالي سلخ سوريا عن ماضيها العروبي المقاوم لكل أشكال التطبيع والعلاقات مع الكيان الغاصب.
إن ما تسعى إليه دولة الكيان يتناغم تماما مع مصالح الولايات المتحدة التي تسعى إلى فرض أجنداتها من خلال دعمها المباشر وغير المباشر لما يسمى «بالأقليات»، وعدم الضغط على قادة الكيان لوقف اعتداءاتهم، وعدم الرفع الكامل الدائم لعقوبات قيصر، ما يبقي على إفقار الشعب السوري، وزيادة معاناته؛ وبالتالي إحراج الإدارة الجديدة بعدم مقدرتها على تقديم الحلول لحياةٍ أفضل لما كانت عليه الأمور إبان حكم طغاة آل الأسد، مع العلم أن الإدارة الجديدة حاولت وتحاول وضع وتنفيذ الخطط التي تضمن حياة أفضل للمواطن على المستويات كافة؛ إذ لم يمض سوى أشهر قليلة حتى عادت عجلة الوزارات والإدارات والهيئات الحكومية للعمل، وبطريقة سلسة معتمدة على الأتمتة وتوظيف التكنولوجيا في تقديم الخدمات للمواطنين، وإشاعة أجواء من الحرية والديمقراطية في البلاد، والقضاء على ملامح، ومظاهر الدولة البوليسية، التي كانت سائدة، وإعادة الممتلكات المنهوبة لأصحابها، وتشكيل لجان العدالة الانتقالية لمحاسبة أزلام ومجرمي النظام الساقط، وإلغاء التجنيد الإجباري المُذل، وتسهيل عودة اللاجئين لمن يرغب، وإعادة هيكلة وزارة الداخلية والدفاع، وإجراء انتخابات مجلس الشعب وترميم المدارس والجامعات. وانطلاق العملية التربوية والتعليمية بحلةٍ وآليةٍ جديدةٍ، وإشاعة أجواء الأمان والاستقرار في البلاد، وإعادة تشغيل المصانع والشركات، ورفع الرسوم الجمركية، وتسهيل دخول الاستثمارات الخارجية والمشاريع التنموية، وفتح المطارات والمرافئ والمعابر الحدودية، مع تأكيد الرئيس الشرع على ضرورة الاعتماد على الذات واستغلال الإمكانات والموارد البشرية السورية، بما يخفف من معاناة الشعب السوري ويتجه بسوريا إلى غدٍ أفضل. هذه الإنجازات دفعت وفد ممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن، الذي زار سوريا مؤخرا، إلى التعبير عن الارتياح، لما شاهده بعد اطلاعه على واقع الحال والنتائج بعد مضي عام على انتصار الثورة.
بيد أن كل ذلك يصطدم بما تقوم به مشغلات خارجية ومحلية لإعاقة دخول سوريا إلى مرحلة جديدة؛ يبدأ معها الإعمار والبناء والتنمية بكل مجالاتها في مواجهة ما تسعى إليه دولة الكيان والولايات المتحدة ووكلائهم محليا وإقليميا. أمام هذا الواقع، المعقد، فإن المطلوب من الإدارة الجديدة التعامل مع» نغمة الأقليات والمكونات» بحذر ومرونة، لا تمس السيادة الوطنية ووحدة البلاد، وتمثيل كل الأطياف في كل المؤسسات، وإعادة النظر بتسريح آلاف الموظفين والعاملين بالدولة وإعطاء فرصة للمصالحة الوطنية من جديد، وإنهاء مظاهر الفوضى والتحديات التي يقوم بها البعض باسم الثورة والدولة الجديدة، وإعادة الاعتبار إلى الضباط المنشقين ولأولئك الذين لم تتلطخ أياديهم بالدماء السورية. والعمل على تخفيض الأسعار، خاصة مواد الطاقة، وتحسين الأحوال المعيشية للمواطن السوري الذي يحتاج إلى إعادة تأهيل، ونشر ثقافة الوعي الوطني والحرص على الحياة المدنية. أما خارجيًا، فالمطلوب من الحكومة الاستمرار في سياسة التوازن في إقامة علاقاتها مع الدول على أسسٍ واضحة تتجاوز الماضي، بما يضمن مصالح سوريا العليا.
مهما بلغت خطورة التحديات، فإن التفاف الشعب السوري حول قيادته الجديدة هو الكفيل بالتغلب عليها، وضمان سيادة الوطن وكرامة الشعب، وإعادة مكانة سوريا إقليميا وعالميا. إن ما حدث من مقاومة في بلدة بيت جن مؤخرًا يبعث برسالةٍ إلى الكيان المحتل وإلى العالم، أن الشعب السوري لا يرضخ للذل والهوان، ولن تثنيه مؤامرات ومخططات التقسيم والانفصال في الدفاع عن كرامة وسيادة وطنه سوريا.

