في خضم الموجة العالمية التي تتحدث عن تراجع الديمقراطية وصعود التيارات الشعبوية والسلطوية، يجد العالم العربي نفسه في مأزق وجودي وحيرة سياسية كبرى. فبينما تتعثر تجارب الانتقال الديمقراطي الواحدة تلو الأخرى، وتعود أنظمة الحكم الفردي لتتصدر المشهد، يطرح التساؤل نفسه بإلحاح: هل انتهت الديمقراطية كحل؟ وهل البديل هو "النموذج السلطوي التنموي" أم أن الخلل يكمن في التطبيق لا في الفكرة؟

 

يستند هذا التقرير إلى رؤية تحليلية للدكتور رفيق حبيب، مفككاً أسباب الردة عن الديمقراطية، ومحاولاً استشراف المستقبل السياسي للمنطقة في ظل البحث عن "المستبد العادل" أو البدائل المستوردة.

 

 

وهم "سقوط الديمقراطية" في الغرب

 

بداية، يجب تصحيح المفاهيم المغلوطة التي تستخدمها الأنظمة العربية لتبرير استبدادها. يرى التحليل أن ما يحدث في الغرب من صعود لليمين المتطرف ليس "كفراً" بالديمقراطية كنظام، بل هو احتجاج شعبي صاخب ضد "النخب الحاكمة" التي انفصلت عن الواقع وتجاهلت ضحايا العولمة الاقتصادية. هذا الغضب الشعبي يبحث عن بدائل داخل الصندوق الديمقراطي وليس خارجه؛ فهو صرخة لتغيير الطبقة الحاكمة وليس لإلغاء آلية التداول السلمي للسلطة.

 

إذن، محاولة إسقاط المشهد الغربي على الواقع العربي للقول بأن "الديمقراطية فشلت عالمياً" هي مغالطة كبرى. فالغرب يواجه أزمة نخب، بينما العرب يواجهون أزمة وجود للنظام السياسي برمته.

 

هل "النموذج الصيني" هو طوق النجاة؟

 

مع تعثر الديمقراطية، تروج بعض الأصوات العربية للنموذج الصيني (التنمية مقابل الحرية) كبديل ناجع. لكن الدكتور رفيق حبيب يفكك هذا الطرح بحذر شديد. فالنموذج الصيني، رغم نجاحه الاقتصادي، هو نموذج "ثقافي خاص" للغاية، يعتمد على مركزية الحزب الواحد وتقاليد مجتمعية صارمة يصعب استنساخها أو "تعلبيها" للتصدير.

 

مشكلة هذا النموذج تكمن في استدامته؛ فهو مرهون بكفاءة "الزعيم" وقوة الحزب، ويفتقد لآليات التصحيح الذاتي التي توفرها التعددية. وبالتالي، فإن محاولة استنساخ "الصين" في بيئة عربية تفتقر لنفس الإرث المؤسسي والثقافي، غالباً ما تنتهي بإنتاج "ديكتاتورية فساد" بدلاً من "ديكتاتورية تنمية".

 

لماذا فشل "الربيع العربي" وعاد الاستبداد؟

 

هنا يكمن جوهر الأزمة العربية. يشير التحليل إلى أن المشكلة في دول مثل تونس أو غيرها من دول الموجة الديمقراطية، لم تكن في الديمقراطية ذاتها، بل في الاكتفاء بـ"صندوق الانتخابات" وإهمال "الحكم الرشيد".

 

لقد جرت انتخابات وتعددت الأحزاب، لكن "الماكينة القديمة" للدولة بقيت كما هي. استمرت شبكات المصالح، والفساد، والبيروقراطية العميقة، والمحسوبية. الديمقراطية التي لا تفكك منظومة الفساد ولا تؤسس لسيادة القانون تصبح ديمقراطية هشة وعاجزة عن إطعام الناس.

 

عندما تفشل الديمقراطية "الصندوقية" في تحقيق الازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، يكفر الناس بها، ويصبح المناخ مهيأً تماماً للانقلاب عليها، بل ومطالبة الجماهير بعودة "الزعيم المخلص" أو المستبد، ظناً منهم أنه الحل للفوضى الاقتصادية، وهو ما يفسر الردة السياسية في العديد من الدول العربية والأفريقية.

 

لا بديل عن التعددية.. ولكن بشروط

 

الخلاصة التي ينتهي إليها التقرير هي أنه لا بديل حقيقي وآمن عن التعددية السياسية. فالحكم الفردي مهما بدا قوياً، يفتقر لآليات تصحيح المسار السلمية. الانتخابات الحرة تظل هي الوسيلة الوحيدة لتفعيل الإرادة الشعبية وضمان الانتقال السلمي للسلطة.

 

لكن الدرس المستفاد لمستقبل العرب هو أن الديمقراطية "باقية وتتمدد" فقط إذا اقترنت بـ"الحكم الرشيد". التحدي القادم ليس مجرد إجراء انتخابات، بل هو بناء "دولة القانون" التي تخضع فيها السلطة للمحاسبة قبل العامة، وتفكيك شبكات "الزبائنية السياسية". بدون هذا الشق الثاني، ستظل المنطقة العربية تدور في حلقة مفرغة: ثورة تطلب الحرية، فوضى بسبب الدولة العميقة، ثم عودة للمربع الأول تحت حكم الفرد.