60 مليار جنيه… استثمار أم تمهيد للبيع؟
حين يعلن كامل الوزير أن الحكومة أنفقت 60 مليار جنيه على تطوير ميناء السخنة، وأن المشروع شمل إنشاء 18 كيلومترًا من الأرصفة البحرية وتمويلًا من الهيئة الاقتصادية لقناة السويس، تبدو الصورة على السطح وكأنها إنجاز تنموي ضخم.
لكن في الواقع، يأتي هذا «التطوير» في سياق خطاب حكومي متكرر عن «جذب الاستثمارات» و«الشراكة مع القطاع الخاص» و«تسييل الأصول»، ما يجعل كثيرين يرونه تجهيزًا لبيع أو تأجير طويل الأجل للميناء بعد رفع قيمته السوقية على نفقة المال العام.
بدل أن يبقى تطوير السخنة استثمارًا استراتيجيًا طويل المدى يعود ريعه للدولة والمجتمع، يتحول إلى مرحلة أولى في مسار نقل السيطرة على الميناء إلى شركات وتحالفات لا تخضع بالضرورة لرقابة شعبية حقيقية.
الموانئ بين خطاب التطوير ومنطق التصفية
تطوير الموانئ ضرورة لأي اقتصاد يريد مكانًا في خريطة التجارة العالمية، لكن السؤال هو: لمن تُسلَّم مفاتيح هذه الموانئ بعد تطويرها؟ في السنوات الأخيرة، اتخذت الحكومة المصرية نهجًا يقوم على إنفاق مليارات من المال العام لتأهيل أصول استراتيجية، ثم طرحها في صيغ «استثمار أجنبي» أو «شراكة طويلة الأجل» تنتهي عمليًا إلى تفريط في السيطرة الفعلية على هذه الأصول.
ما يجري في السخنة، من ضخ 60 مليار جنيه في الأرصفة والبنية التحتية، يتقاطع مع ما حدث ويحدث في موانئ أخرى، وفي مقدمتها الإسكندرية ودمياط، حيث يتم الترويج لنفس الخطاب: تطوير ضخم يعقبه دخول مستثمر أجنبي أو تحالف خاص يحصل على أفضل أجزاء الميناء بشروط طويلة الأمد. بهذه الطريقة، يتحول مفهوم التطوير من تعزيز القدرة الوطنية إلى رفع سعر الأصل تمهيدًا لبيعه أو رهنه.
ربط السخنة بما يجري في الإسكندرية للحاويات
قصة «الإسكندرية لتداول الحاويات» نموذج واضح لما يمكن أن يُخشى تكراره في السخنة. شركة ناجحة ورابحة، تعمل في واحد من أهم الموانئ المصرية، تُطرح حصص منها للبيع أو الشراكة، وتدور حولها أحاديث عن تقييمات أقل من قيمتها الحقيقية، وعن دخول أطراف جديدة تتحكم في جزء حيوي من حركة الحاويات. التشابه بين الحالتين يكمن في المنطق:
- أولًا، يتم تحسين الأصول ورفع كفاءتها من المال العام.
- ثانيًا، يُروَّج لخطاب «لا بد من مستثمر استراتيجي» و«الدولة لا يجب أن تدير كل شيء».
- ثالثًا، تُفتح الأبواب أمام صفقات تمنح أطرافًا محددة نفوذًا عميقًا في قطاع الموانئ.
بهذا الربط، يصبح تصريح كامل الوزير عن مليارات السخنة أقل براءة: ليست مجرد أرقام في مشروع تطوير، بل تجهيز مسرح تقف على أبوابه بالفعل موجة بيع وتفريط مشابهة لما يجري في الإسكندرية للحاويات.
أصول استراتيجية تتحول إلى رهائن للديون
السياسة الاقتصادية الحالية تقوم على فكرة «تسييل الأصول» لسد فجوات الديون والعجز بدل إصلاح أسباب الأزمة من جذورها. الموانئ، بوصفها مصدرًا ثابتًا للعملة الصعبة، يجب أن تكون في صدارة ما يحافظ عليه أي نظام عاقل، لأنها شرايين التجارة والعبور ورسوم الترانزيت.
لكن حين تُدار بمنطق البيع أو الشراكة غير المتكافئة، تتحول من مصدر قوة إلى نقطة ضعف، إذ تصبح عوائدها مرهونة لعقود واتفاقيات طويلة الأجل، ولا تعود للدولة سوى فتات الرسوم أو نسب محدودة من الأرباح.
ما يتسرب من معلومات عن صفقات موانئ ومرافئ في المنطقة يوضح أن دخول كيانات استثمارية كبرى غالبًا ما يرتبط بشروط تمنحها سيطرة واسعة مقابل عوائد محدودة للدولة المضيفة. إذا انسحبت مصر إلى هذا المسار في السخنة والإسكندرية معًا، فهي عمليًا تضع جزءًا من شريانها البحري في يد منطق الربح الخاص لا منطق المصلحة الوطنية.
مسؤولية سياسية مباشرة عن التفريط
في قلب هذه الصورة يقف السيسي وحكومته، وعلى رأسها وزراء كالوزير، يتحركون ضمن رؤية تعتبر الأصول العامة مخزونًا جاهزًا للإنفاق كلما ضاق الحال، لا ثروة استراتيجية للأجيال القادمة. وزير النقل حين يعلن أرقامًا ضخمة عن تطوير السخنة، لا يتحدث في المقابل عن ضمانات لعدم بيع الميناء أو منح امتيازات طويلة الأجل تفرغ التطوير من مضمونه الوطني.
ولا يشرح للمصريين كيف سيتحقق لهم عائد عادل من هذه الاستثمارات إذا انتهى الأمر بشركات خاصة تتحكم في الأرصفة والأكشاك والخدمات اللوجستية.
المسؤولية هنا ليست تقنية، بل سياسية وأخلاقية: من يتخذ قرار ضخ عشرات المليارات في ميناء، ثم يفتحه لصفقات تفريط، يتحمل أمام الشعب مسؤولية تضييع فرصة أن يكون هذا الميناء مصدر قوة واستقلال، لا مجرد أصل آخر يُباع لسداد فاتورة ديون صنعها نفس النظام.
من تطوير السخنة إلى بيع البلد قطعة قطعة
ما بين السخنة والإسكندرية تتكشف ملامح سياسة ثابتة: تطوير ممول من المال العام، يعقبه مسار خصخصة أو شراكات طويلة الأمد تقضم من سيطرة الدولة على أهم أصولها. تحت لافتة «جذب الاستثمار»، تُدفع الموانئ المصرية إلى حافة التفريط، وتتحول المليارات التي يدفعها الشعب إلى تذكرة دخول لمستثمرين سيجنون ثمار ما بُني على حسابه.
انتقاد كامل الوزير وحده لا يكفي؛ فالمسؤول الأول عن هذا المسار هو السيسي الذي أقر فلسفة بيع الأصول وتسييلها بدل حماية ما تبقى من ثروة البلد. إذا استمر هذا النهج، فالسخنة اليوم والإسكندرية للحاويات غدًا، وبعدهما ما تبقى من موانئ وشركات، لتجد الأجيال القادمة نفسها في بلد فقد السيطرة على شواطئه ومرافئه، ولا يملك من ثرواته إلا الذكريات.

