الفنتانيل عقار أفيوني صناعي طُوِّر طبيًا لتسكين الآلام الشديدة، خاصة في حالات السرطان والجراحات الكبرى، بجرعات دقيقة وتحت إشراف صارم. لكنه خرج سريعًا من الإطار الطبي، مع ظهور نسخ غير مشروعة تُصنَّع في معامل سرية، وتُهرَّب وتُخلَط بمخدرات أخرى مثل الهيروين والكوكايين وحبوب مزيفة من أجل تعظيم الربح على حساب حياة المتعاطين. هذا الانفلات، وما رافقه من ارتفاع حاد في وفيات الجرعة الزائدة، دفع الإدارة الأميركية للتعامل مع الفنتانيل باعتباره تهديدًا يمس الأمن القومي لا مجرد أزمة صحية.

 

أولًا - ما هو الفنتانيل وكم هو خطير؟

 

الفنتانيل أفيون صناعي شديد الفعالية، يُقدَّر أنه أقوى بنحو 50 مرة من الهيروين، و100 مرة من المورفين تقريبًا، ما يعني أن كمية ميكروجرامية صغيرة منه قد تكون قاتلة. طبيًا يُصرف بجرعات دقيقة في صورة لصقات جلدية أو حقن أو أقراص ذائبة، لمرضى يعانون آلامًا لا يحتملها المسكن العادي. الخطر الأكبر يكمن في أن المتعاطي غير الشرعي غالبًا لا يعرف الكمية الموجودة في القرص أو البودرة التي يتناولها، ولا يتحمل جسده هذا التركيز العالي، فتحدث الوفاة خلال دقائق بسبب توقف التنفس.

 

ثانيًا - أزمة الفنتانيل في الولايات المتحدة

 

خلال السنوات الأخيرة، أصبح الفنتانيل العامل الرئيس في موجة وفيات الجرعة الزائدة في الولايات المتحدة، متجاوزًا الهيروين والمواد الأفيونية الأخرى. عشرات الآلاف يموتون سنويًا نتيجة تعاطي جرعات تحتوي على فنتانيل نقي أو مخلوط دون علمهم، ما حوّل الأزمة إلى ما يشبه «وباء صامت». كثير من الحالات تكون لمدمنين على حبوب مسكنة أو هيروين، يتلقون شحنة مغشوشة تحتوي على فنتانيل، فينهار الجهاز التنفسي فجأة قبل وصول الإسعاف أو مضاد السم (نالوكسون). حجم الوفيات، وسرعة الانتشار، وتورط شبكات تهريب عابرة للحدود، جعل من الفنتانيل محورًا لأجندة الأمن القومي الأميركي ولخطاب ترمب المتشدد تجاه ملف المخدرات والهجرة والحدود.


ثالثًا - لماذا يصنف كسلاح دمار شامل؟

 

تشبيه الفنتانيل بسلاح دمار شامل يرتبط بعدة عوامل:

 

- قوته الفائقة؛ فجرعات صغيرة للغاية يمكن أن تقتل عددًا كبيرًا من الأشخاص إذا خُلطت بالطعام أو الهواء في ظروف معينة.

 

- سهولة تصنيعه ونقله؛ إذ يمكن إنتاجه في معامل صغيرة دون الحاجة لحقول خشخاش، ما يجعله جذابًا لعصابات منظمة.

 

- إمكانية استخدامه في هجمات متعمدة؛ فخصائصه تجعله مرشحًا نظريًا للاستخدام كسلاح كيميائي في يد جماعات أو دول مارقة.

 

من هذا المنطلق، يريد تصنيفه في إطار «سلاح دمار شامل» أن يفتح المجال لأدوات قانونية وأمنية أوسع لملاحقة المنتجين والمهرّبين، وتقييد الحصول على المواد الأولية، وربما التعامل مع بعض الشبكات كما يُتعامل مع التهديدات الإرهابية.

 

الأبعاد السياسية والاقتصادية للأزمة

 

أزمة الفنتانيل ليست طبية فقط، بل لها أبعاد سياسية واقتصادية عميقة. شركات أدوية تورطت في الماضي في الترويج المفرط لمسكنات أفيونية أقل قوة، ما مهّد لبيئة الإدمان، قبل أن تأتي موجة الفنتانيل غير الشرعي لتكمل الحلقة. على الصعيد الدولي، تُتهم بعض الشبكات في دول آسيوية وأميركا اللاتينية بإنتاج المواد الأولية أو تصنيع الفنتانيل وتهريبه إلى السوق الأميركي، ما يخلق توترًا دبلوماسيًا وضغوطًا متبادلة. داخليًا، يُستغل الملف في خطاب سياسي عن «حماية الشباب» و«تشديد الحدود»، بينما يظل جانب العلاج وإعادة التأهيل ودعم الصحة النفسية أقل تمويلًا من جانب الإنفاذ الأمني. وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يكفي تشديد العقوبات ووصف الفنتانيل بسلاح دمار شامل، دون معالجة جذور الطلب على الأفيونات والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تغذي الإدمان؟

 

ما بين الردع والعلاج.. معركة مفتوحة

 

تصنيف الفنتانيل كسلاح دمار شامل يعكس اعترافًا بحجم الخطر، لكنه لا يضمن وحده حل الأزمة. هذه المادة الأفيونية الصناعية تمثل اليوم نموذجًا لكيف يمكن لعقار طبي أن يتحول، بفعل الجشع وسوء التنظيم، إلى مصدر قتل جماعي يهدد مجتمعات بأكملها. مواجهة الفنتانيل تحتاج مسارًا مزدوجًا: أمنيًا عبر تجفيف منابع الإنتاج والتهريب، وقانونيًا بتشديد الرقابة على الوصفات والمواد الأولية، وطبيًا واجتماعيًا بتوسيع برامج العلاج من الإدمان، وتوفير بدائل آمنة، ورفع الوعي بخطر الجرعة الزائدة. من دون هذا التوازن، سيبقى الفنتانيل يجمع بين وجهين: «دواء» لإنقاذ بعض المرضى من الألم، و«سم» يحصد آلاف الأرواح في صمت، مهما تغيّرت أوصافه القانونية أو التصريحات السياسية حوله.