تضاعفت فاتورة الطاقة في مصر خلال 2025 بشكل يكشف فشلًا هيكليًا في إدارة ملف الغاز والبترول، لا مجرد “تقلبات سوق”. الأرقام الرسمية والصفقات المعلنة تضع حكومة الانقلاب أمام سؤال واحد: كيف تحولت دولة قيل إنها “مركز إقليمي للطاقة” إلى مستورد يلهث خلف الغاز ويستنزف الموازنة؟

 

انفجار الواردات.. واستنزاف الدولار

 

خلال الأشهر التسعة الأولى من 2025 قفزت قيمة واردات الغاز الطبيعي بنحو 87.5% لتصل إلى 6.34 مليار دولار مقابل 3.38 مليار دولار في الفترة نفسها من العام السابق، وهي قفزة ضخمة تعني ضغطًا مباشرًا على العملة الأجنبية في بلد يعيش أصلًا على الاقتراض وسد الفجوات لا على بناء فائض إنتاجي مستدام.

 

وفي السياق نفسه ارتفعت واردات البترول الخام بنسبة 263% لتسجل 1.069 مليار دولار مقابل 294 مليون دولار، بينما زادت واردات منتجات الطاقة ككل بنسبة 29.6% لتصل إلى 16.2 مليار دولار بدلًا من 12.5 مليار دولار، ما يعني ببساطة أن فاتورة الطاقة أصبحت بندًا متوحشًا يلتهم الموارد التي كان يفترض أن تذهب للتعليم والصحة والنقل والخدمات.

 

هذه الزيادات لا تبدو كأزمة عابرة بقدر ما تعكس نموذج إدارة يقوم على رد الفعل والشراء بأي ثمن لتجنب انفجار داخلي في الكهرباء والوقود، ثم تمرير التكلفة تدريجيًا إلى الناس عبر الأسعار والضرائب وتقليص الدعم، بينما تُقدَّم نفس السياسات إعلاميًا باعتبارها “إصلاحًا” لا إفقارًا منظمًا.

 

سقوط الصادرات.. من “مركز إقليمي” إلى عجز دائم

 

على الجانب الآخر، تُظهر البيانات تراجعًا حادًا في عائدات تصدير الغاز الطبيعي والمسال بنسبة 63.7% خلال أول 9 أشهر من 2025 لتسجل 107.9 مليون دولار بدلًا من 297.5 مليون دولار، أي انخفاض قدره 189.6 مليون دولار، وهو رقم يلخص انهيار رواية “التصدير والوفرة” التي رُوّجت لسنوات كإنجاز سياسي لا كمشروع اقتصادي قابل للاستمرار.

 

وحتى إجمالي صادرات منتجات الطاقة تراجع (وإن بصورة طفيفة) بنسبة 2.1% إلى 3.64 مليار دولار مقارنة بـ3.72 مليار، كما هبطت صادرات البترول الخام بنسبة 5.2% إلى 824.3 مليون دولار، وانخفضت صادرات الفحم 31% إلى 11.6 مليون دولار، بما يعني أن المشكلة ليست فقط في الغاز بل في أداء قطاع الطاقة التجاري كله بين تراجع إنتاج/قدرة تصديرية وارتفاع فاتورة استيراد.

 

عندما تتراجع الصادرات بهذا الشكل بينما تنفجر الواردات، تصبح الدولة عمليًا رهينة السوق الخارجي: تُصدّر أقل فتدخل دولارات أقل، وتستورد أكثر فتدفع دولارات أكثر، فتتسع فجوة العملة ويزيد الضغط على الجنيه وتتكرر دوامة رفع الأسعار، ثم يُطلب من المواطن “التحمل” وكأن المشكلة في استهلاكه لا في سوء التخطيط وتغليب الدعاية على الإدارة الرشيدة.

 

صفقة إسرائيل.. تكريس التبعية بدل تأمين الاحتياجات

 

تزامن نشر أرقام التجارة الخارجية مع موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أكبر اتفاق غاز في تاريخ إسرائيل مع مصر بقيمة 112 مليار شيكل (نحو 34.7 مليار دولار) ممتد حتى 2040، وهي صفقة طويلة الأجل تثير أسئلة سياسية واقتصادية عن موقع مصر التفاوضي حين تصبح الحاجة للغاز عنوان المرحلة لا خيارًا ضمن سلة مصادر متنوعة.

 

الأخطر أن المشهد كله يأتي بعد أن كانت مصر تخطط لتكون مُصدّرًا رئيسيًا عقب اكتشاف “ظهر” في 2015، قبل أن ينخفض إنتاج الغاز المحلي منذ 2021 ويصل في 2024 إلى أدنى مستوى في ست سنوات، لتتحول البلاد فعليًا من سردية “الاكتفاء والتصدير” إلى واقع “الاستيراد والتقشف”، وهو انتقال لا يحدث بهذه السرعة إلا حين تُدار الموارد بعقلية الاستعراض والإنفاق على المشروعات ذات العائد السياسي السريع بدل الاستثمار العميق في الإنتاج والصيانة ورفع كفاءة الشبكات.

 

ووفق المعطيات نفسها، تحولت أزمة الغاز إلى عامل رئيسي يضغط على الموازنة العامة بعد أن أصبح الغاز والبترول المستوردان مصدرًا كبيرًا للنفقات، وفي النهاية يدفع المواطن الثمن مرتين: مرة بانقطاع/اضطراب الخدمات والطاقة، ومرة بفواتير أعلى وتضخم أقسى، بينما تواصل حكومة الانقلاب تقديم الفشل على أنه “ظروف عالمية” وتتجاهل أن القرارات الداخلية هي التي جعلت الاقتصاد هشًا أمام أي صدمة.