في مشهد يعكس حالة من الانفصام الحاد بين التصريحات الحكومية والواقع الاقتصادي المتردي، خرج رئيس وزراء الانقلاب الدكتور مصطفى مدبولي ليؤكد أن "السؤال الحقيقي عن الدين العام أكثر ارتباطًا بكيفية إدارته، وليس عن حجمه"، مبشرًا بسياسة "الدين المنتج" واستبدال الديون الضاغطة بأخرى تولد استثمارات.

 

إلا أن هذه السردية الحكومية تصطدم بجدار من الأرقام الصادمة والحقائق الموجعة التي ترسم صورة قاتمة لمستقبل الاقتصاد المصري. فبينما تحاول الحكومة "تجميل" الأزمة، تكشف البيانات الرسمية عن دين عام تجاوز كل الخطوط الحمراء، وخدمة ديون تبتلع الموازنة العامة، وسياسات جبائية تنقل الثروة من جيوب الفقراء والطبقة المتوسطة إلى خزائن الدائنين والمؤسسات المالية، محولة الديون من أداة تمويل إلى سلاح يهدد بتفكيك العقد الاجتماعي ورهن السيادة الوطنية.

 

أرقام صادمة تكشف حقيقة "الانهيار الصامت"

 

تتعارض تطمينات مدبولي بشكل صارخ مع البيانات الصادرة عن البنك المركزي المصري ومؤسسات اقتصادية دولية. فوفقًا لأحدث القراءات، بلغ إجمالي الدين العام للحكومة (الداخلي والخارجي) نحو 301.7 مليار دولار بنهاية يونيو 2025، بزيادة قدرها 11.3 مليار دولار في ربع سنة واحدة فقط. والأخطر أن هذا الرقم يخص "الدين الحكومي" فحسب، بينما تشير التقديرات إلى أن إجمالي الدين (بما يشمل البنوك والقطاع الخاص والمال الساخن) قد تجاوز حاجز 850 مليار دولار، ما يمثل أكثر من 130% من الناتج المحلي الإجمالي.

 

هذا الحجم الهائل للدين يُسقط حجة "الإدارة" التي تروج لها الحكومة؛ فعندما يتجاوز الدين العام 60% من الناتج المحلي، تفقد الدولة قدرتها على المناورة والتفاوض، وتتحول "الإدارة" إلى مجرد تنفيذ لإملاءات الدائنين، وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي، الذي يفرض شروطًا قاسية تتضمن التعويم، والخصخصة، وتقليص مظلة الحماية الاجتماعية.

 

خدمة الدين: الغول الذي يلتهم الموازنة والخدمات

 

لم يعد الدين مجرد عبء محاسبي، بل تحول إلى كارثة تلتهم موارد الدولة. تشير البيانات إلى أن خدمة الدين (الفوائد والأقساط) أصبحت تلتهم النسبة الأكبر من إيرادات الدولة، حيث وصلت في الأشهر الأولى من عام 2025 إلى مستويات قياسية، إذ ابتلعت الفوائد وحدها ما يعادل 104% من الإيرادات في بعض الفترات. وعلى مدار العام المالي 2024/2025، ذهب نحو 74% من إجمالي الإيرادات لسداد فوائد الديون، مقارنة بـ 54% في العام السابق.

 

هذا النزيف المالي المستمر يتم تمويله عبر تدمير شبكة الأمان الاجتماعي، حيث تتقلص مخصصات الدعم على السلع الأساسية كالخبز والوقود والكهرباء، وتتراجع ميزانيات الصحة والتعليم إلى مستويات متدنية لا تفي بالحدود الدستورية الدنيا. وهكذا، تحولت الدولة من ممول للتنمية والخدمات العامة إلى جابي ضرائب يعمل لصالح الدائنين، حيث تأتي 83% من إيرادات الدولة من جيوب المواطنين عبر الضرائب والرسوم، بعد إلغاء عشرات الإعفاءات على سلع وخدمات حيوية.

 

وهم "الدين المنتج" ومخاطر رهن السيادة

 

تحاول الحكومة تسويق مفهوم "الدين المنتج"، لكن الواقع يثبت فشل هذا النموذج في السياق المصري. فالمشاريع التي تم تمويلها بالديون لم تنجح في زيادة الصادرات بشكل ملموس، ولا في خفض العجز التجاري الذي لا يزال يدور حول 50 مليار دولار، ولم تخلق وظائف إنتاجية حقيقية، بل ذهبت معظم الأموال إلى مشاريع بنية تحتية أو لسد عجز الموازنة ودفع رواتب واستهلاك جاري.

 

علاوة على ذلك، يثير الارتفاع المستمر في الدين الخارجي، الذي تجاوز 180 مليار دولار، مخاوف جدية بشأن "رهن السيادة الوطنية". فكل قرض جديد بات يتطلب ضمانات قد تصل إلى رهن أصول استراتيجية ومرافق عامة، مما يجعل القرار الاقتصادي والسياسي المصري رهينة للمؤسسات الدولية والدائنين. إن استمرار هذا المسار، الذي يعتمد على الاقتراض لسداد الديون القديمة ورفع الضرائب على المواطنين، يهدد بتآكل الشرعية الاجتماعية وتعميق التبعية، ويضع البلاد أمام سيناريوهات مفتوحة على المجهول.