في تطور دراماتيكي ألقى بظلاله القاتمة على المشهدين السياسي والعسكري في ليبيا، استيقظت العاصمة طرابلس وعواصم إقليمية أخرى على وقع صدمة كبرى تمثلت في إعلان وفاة رئيس أركان الجيش الليبي، الفريق أول محمد علي أحمد الحداد، رفقة نخبة من القيادات العسكرية الرفيعة.
الحادث الذي وقع مساء الثالث والعشرين من ديسمبر 2025، لم يكن مجرد تحطم لطائرة خاصة، بل هو زلزال ضرب هرم القيادة العسكرية في الغرب الليبي، تاركاً وراءه أسئلة معقدة حول أسباب السقوط، ومستقبل التوازنات العسكرية في بلد لا يزال يتلمس طريقه نحو الاستقرار.
جاء الإعلان الرسمي على لسان رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، لينهي ساعات من الترقب والقلق بدأت مع انقطاع الاتصال بالطائرة فوق الأجواء التركية.
إن فقدان شخصية بحجم الحداد، الذي عُين في منصبه منذ أغسطس 2020، وفي هذا التوقيت الحساس، يتجاوز كونه خبراً عاجلاً في نشرات الأخبار، ليصبح حدثاً مفصلياً قد يعيد ترتيب الأوراق في المؤسسة العسكرية، خاصة وأن الرحلة كانت تحمل طابعاً رسمياً وتضم وفداً رفيع المستوى كان في مهمة لتعزيز التعاون العسكري مع الحليف التركي.
اللحظات الأخيرة لـ "فالكون 50": سيناريو الكارثة الجوية
تشير التفاصيل التقنية الأولية التي كشفت عنها السلطات التركية والليبية إلى تسلسل زمني سريع ومروع للحادث. الطائرة المنكوبة، وهي من طراز "فالكون 50" وتحمل التسجيل رقم (9H-DFJ)، كانت في رحلة عودة اعتيادية من أنقرة إلى طرابلس.
وبحسب وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، انقطع الاتصال بالطائرة عند الساعة 17:52 بتوقيت جرينتش، وهو وقت حرج يلي الإقلاع بفترة وجيزة، مما يشير إلى أن الكارثة وقعت بينما كانت الطائرة لا تزال في مرحلة التسلق أو الاستقرار الأولي.
المعلومات الصادرة عن رئاسة دائرة الاتصال بالرئاسة التركية أضافت بعداً تقنياً للتحقيقات، حيث أكد برهان الدين دوران أن الطاقم أبلغ عن "عطل كهربائي" وطلب الهبوط الاضطراري. هذا النداء الأخير يرسم صورة للحظات الرعب التي عاشها الركاب، حيث حاولت الطائرة العودة أو الهبوط في محيط منطقة "هايمانا"، جنوب شرقي العاصمة أنقرة بنحو 50 كيلومتراً.
إلا أن القدر كان أسرع، وتحطمت الطائرة جنوب قرية "كسيكفاك"، ليتحول جسم الطائرة الفاخرة إلى حطام متناثر، ومعه حياة خمسة من أبرز العسكريين الليبيين.
قائمة الضحايا تؤكد فداحة الخسارة للمؤسسة العسكرية؛ فإلى جانب الفريق أول الحداد، فقدت ليبيا في هذه الرحلة الفريق ركن الفيتوري غريبيل، رئيس أركان القوات البرية، وهو منصب محوري في السيطرة الميدانية.
كما قُتل العميد محمود القطيوي، مدير جهاز التصنيع العسكري، ومحمد العصاوي دياب، مستشار رئيس الأركان، والمصور الصحفي محمد عمر أحمد محجوب.
وجود مدير التصنيع العسكري ضمن الوفد يشير بوضوح إلى أن الزيارة لتركيا كانت تتعلق بملفات تسليح أو تطوير قدرات دفاعية، مما يضاعف من حجم الخسارة الفنية والاستراتيجية.
تحقيقات تحت المجهر: بين الفرضية الفنية والشبهات الجنائية
فور تأكيد الخبر، سارعت حكومة الوحدة الوطنية إلى اتخاذ خطوات استباقية لقطع الطريق أمام الشائعات والتأويلات التي عادة ما تصاحب حوادث اغتيال أو وفاة القادة العسكريين. البيان الحكومي لم يكتفِ بالنعي، بل أعلن تشكيل "لجنة تحقيق" رفيعة المستوى بصلاحيات واسعة.
اللافت في القرار الحكومي هو شمولية التفويض الممنوح للجنة، والذي يتضمن التنسيق المباشر مع السلطات الأمنية والقضائية التركية، ومراجعة دقيقة لإجراءات السلامة الخاصة بالطائرة.
النقطة الأكثر جوهرية في مهام اللجنة هي البحث في وجود أي "شبهات إهمال أو تقصير أو فعل جنائي". هذه الصياغة تعكس إدراكاً حكومياً لحساسية الموقف؛ ففي منطقة تعج بالصراعات الاستخباراتية والتوترات السياسية، لا يمكن استبعاد أي فرضية قبل اكتمال التحقيقات الفنية.
التزامن مع إعلان وزير العدل التركي فتح تحقيق رسمي من قبل النيابة العامة في أنقرة يضفي صبغة قانونية دولية على الحادث، ويؤكد أن الجانب التركي يتعامل مع الواقعة بجدية قصوى، نظراً لوقوعها على أراضيه ولشخصية الضحايا الاعتبارية.
التقارير التي تحدثت عن سماع دوي انفجار ومشاهدة مقاطع مصورة للنيران قرب موقع السقوط، بالإضافة إلى إغلاق المجال الجوي لأنقرة مؤقتًا، كلها معطيات ستكون محور عمل المحققين. هل كان العطل الكهربائي سبباً كافياً للسقوط المروع، أم أنه كان نتيجة لتدخل خارجي أو تخريب داخلي؟
الإجابة عن هذا السؤال ستحدد الكثير من ملامح المشهد القادم، وستكون اختباراً لشفافية التعاون بين طرابلس وأنقرة في كشف الحقائق للرأي العام الليبي.
تداعيات الرحيل: المؤسسة العسكرية ومستقبل التوازنات
سياسياً وعسكرياً، يمثل رحيل الفريق أول محمد الحداد فراغاً كبيراً يصعب ملؤه في المدى القريب. الحداد لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان يُنظر إليه كشخصية تتمتع بوزن نسبي في معادلة التوازن الصعبة بين الشرق والغرب الليبي.
ولعل أبرز دليل على ذلك هو نعي القيادة العامة للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر للراحل، وهو موقف يحمل دلالات سياسية هامة في ظل الانقسام المؤسسي الذي تعيشه البلاد. هذا الإجماع النادر في النعي بين المجلس الرئاسي، وحكومة الدبيبة، وقيادة حفتر، يشير إلى المكانة التي كان يحظى بها الحداد كقناة اتصال وتنسيق محتملة لتوحيد المؤسسة العسكرية.
الخسارة تمتد لتشمل "الذاكرة المؤسسية" والملفات المفتوحة التي كان يحملها هؤلاء القادة.
فوجود رئيس أركان القوات البرية ومدير التصنيع العسكري معاً في نفس الطائرة يعني أن هناك خططاً وبرامج عمل مشتركة مع الجانب التركي قد تتأثر أو تتأجل.
تركيا، التي استقبلت الوفد وعقدت معه اجتماعات رفيعة المستوى قبل ساعات من الحادث، تجد نفسها الآن في موقف المعزي والشريك في التحقيق، مما سيفرض بروتوكولات تعاون مكثفة في الأيام القادمة لنقل الجثامين وكشف ملابسات الحادث.
في الختام، يضع هذا الحادث ليبيا أمام اختبار جديد لتماسك مؤسساتها العسكرية في الغرب.
إن سرعة تعيين بدلاء أكفاء، والشفافية في إعلان نتائج التحقيق، والقدرة على استيعاب الصدمة دون الانزلاق إلى فوضى إدارية أو أمنية، ستكون هي المعايير الحقيقية لقوة الدولة في مواجهة هذه الفاجعة.
وبينما ينتظر الليبيون عودة الجثامين، تظل الأنظار معلقة صوب أنقرة، بانتظار ما سيكشفه الصندوق الأسود لطائرة "فالكون 50" عن أسرار الرحلة الأخيرة للجنرال ورفاقه.

