في مفارقة صارخة تكشف عمق الهوة بين "مصر الرسمية" و"مصر الواقعية"، وبينما تتواتر التقارير الحقوقية المحلية والدولية عن اكتظاظ الزنازين بأكثر من 60 ألف معتقل سياسي، خرجت الحكومة المصرية لتبشر بتدشين "استراتيجية جديدة لحقوق الإنسان" مطلع العام المقبل.

 

هذه الخطوة، التي روج لها وزير الخارجية بدر عبد العاطي أمام مجلس الشيوخ، جاءت محملة بعبارات رنانة عن "تعزيز الحريات" و"خدمة المواطن"، لكنها اصطدمت فوراً بحائط صد من الحقائق المرة: آلاف المنسيين خلف القضبان بلا محاكمة، عشرات الوفيات بالإهمال الطبي، ومراكز احتجاز جديدة وُصفت بأنها "مقابر للأحياء" رغم تلميعها بأسماء براقة مثل "مراكز الإصلاح والتأهيل".

 

الوزير عبد العاطي، وفي محاولة مفضوحة لتبييض صفحة النظام أمام المجتمع الدولي، لم يكتفِ بالحديث عن الخطط المستقبلية، بل ذهب إلى حد الزعم بأن السجون المصرية باتت "جاذبة" للنزلاء لدرجة رفضهم مغادرتها، وهو تصريح أثار موجة من السخرية المريرة والغضب المكتوم.

 

فكيف يمكن لدولة تدعي "احترام الكرامة" أن تتجاهل صرخات آلاف الأسر التي تبحث عن ذويها المختفين قسرياً، أو تستغيث لإنقاذ أبنائها من الموت البطيء في زنازين انفرادية؟

 

"مراكز التأهيل": طلاء لامع لجدران القمع

 

يرى الحقوقيون أن الترويج لمجمعات السجون الجديدة (وادي النطرون، بدر) كإنجاز حقوقي هو عملية تضليل ممنهجة.

 

وفي هذا السياق، يؤكد جمال عيد، مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، أن "تغيير اللافتات من (سجون) إلى (مراكز تأهيل) لا يغير من جوهر القمع شيئاً".

 

ويشير عيد إلى أن النظام يظن أن بناء جدران خرسانية حديثة سيمحو تاريخ التعذيب، بينما الواقع يؤكد أن هذه المراكز الجديدة تشهد انتهاكات أشد قسوة، حيث يُعزل المعتقل تماماً عن العالم الخارجي وتُمنع عنه الزيارة لسنوات، مما يجعلها "أدوات قتل نفسي بطيء" وليست مؤسسات للإصلاح.

 

ويتفق معه خلف بيومي، مدير مركز الشهاب لحقوق الإنسان، الذي يرى أن حديث الوزير عن "رفض السجناء الخروج" هو استخفاف بعقول المصريين.

 

ويوثق بيومي في تقارير مركزه عشرات حالات الوفاة داخل هذه المراكز "النموذجية" نتيجة الإهمال الطبي المتعمد، مؤكداً أن "الاستراتيجية الحقيقية للنظام هي كسر إرادة المعتقلين عبر الحرمان من العلاج والتريض، وليس تأهيلهم".

 

تشريعات "حبر على ورق" وتدوير لا يتوقف

 

رغم تباهي الحكومة بإصدار قوانين جديدة وتخفيض مدد الحبس الاحتياطي "نظرياً"، إلا أن التطبيق العملي يكشف عن وجه آخر.

 

يوضح المحامي الحقوقي نجاد البرعي، عضو مجلس أمناء الحوار الوطني، أن المشكلة في مصر لم تكن يوماً في نصوص القانون، بل في "الإرادة السياسية" لتطبيقه.

 

ويضيف البرعي: "ما قيمة إصدار استراتيجية جديدة بينما النيابة العامة والقضاء يستخدمان (التدوير) للالتفاف على قرارات إخلاء السبيل؟ نحن أمام آلة قانونية تعمل لشرعنة الاعتقال المفتوح، حيث يخرج المعتقل من قضية ليدخل في أخرى بنفس التهم، في دائرة عبثية لا تنتهي".

 

من جانبها، ترى سلمى أشرف، مديرة منظمة "هيومن رايتس مونيتور"، أن الاستراتيجية المعلنة ليست سوى "رسالة للخارج" للحصول على المساعدات والقروض.

 

وتؤكد أشرف أن النظام يستخدم ملف حقوق الإنسان كورقة مساومة سياسية، بينما في الداخل يستمر في البطش بأي صوت معارض، سواء كان سياسياً أو حتى مواطناً عادياً يعبر عن رأيه في أزمة اقتصادية، مما يفرغ أي حديث عن "إصلاح حقوقي" من مضمونه.

 

"الخصوصية الثقافية": شماعة الهروب من المحاسبة

 

أعاد الوزير استخدام نغمة "الخصوصية الثقافية" لرفض المعايير العالمية لحقوق الإنسان، وهو ما اعتبرته الدكتورة عايدة سيف الدولة، مديرة مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، "ذريعة مفلسة". تشير سيف الدولة إلى أن "التعذيب ليس ثقافة مصرية، والإخفاء القسري ليس خصوصية دينية".

 

وتشدد على أن الحقوق الأساسية في الحياة والحرية والكرامة هي قيم إنسانية كونية لا تقبل التجزئة، وأن محاولة النظام الاختباء خلف "السيادة الوطنية" لتبرير جرائمه لم تعد تنطلي على أحد في ظل توثيق المنظمات الدولية لكل شاردة وواردة.

 

وتختتم سيف الدولة رؤيتها بأن الاستراتيجية الوحيدة المقبولة تبدأ بـ"تبييض السجون" فعلياً بالإفراج عن المظلومين، وليس بتبييض وجه النظام إعلامياً.