لم يُصمم ميدان التحرير ليكون مكانًا يعبر فيه الشعب المصري عن ثوراته واحتجاجاته، لكن أصبح كذلك بالفعل.
حتى قبل أبرز الأحداث في العقدين الأخيرين - ثورة 2011 - كان المصريون يستخدمون هذه المساحة العامة الحضرية، سواء من الناحية الوظيفية أو المعمارية، للتعبير عن معارضتهم للخديوي العثماني، الاحتلال البريطاني، والرؤساء الذين جاءوا بعدهم.

في عام 1952، أصبح الميدان موقعًا للاحتفالات في الأشهر التي تلت الثورة التي أزاحت الملك فاروق الأول من السلطة. وكان أيضًا المكان الذي ألقى فيه الرئيس محمد نجيب خطبًا علنية في يناير 1953 ليتواصل مع الشعب المصري ويواجه غضبهم.

في عام 1972، واجه الرئيس أنور السادات (1970-1981) احتجاجات طلابية في ميدان التحرير، بالإضافة إلى مظاهرات في الأجواء الاجتماعية المشحونة قبل حرب أكتوبر 1973، وانتفاضة الخبز عام 1977.

حتى اسمه الحديث، "التحرير"، كان ثوريًا. فقد كان يُسمى في الأصل "إسماعيلية" نسبة إلى الخديوي إسماعيل باشا (1863-1879) الذي أنشأه خلال فترة حكمه، وتم تغييره بعد توقيع اتفاقية إخلاء القوات البريطانية في 1954. "التحرير" أصبح يرمز إلى التحرر من الانتداب البريطاني والملكية.

تكمن أهمية ميدان التحرير التاريخية من الناحية الحضرية والمعمارية في بناء العديد من المباني السياسية المهمة حوله، بما في ذلك مقر الجامعة العربية الجديد. بحلول عام 2011، كان الميدان محاطًا بما لا يقل عن 18 وزارة حكومية.

لذلك، لم يكن من المفاجئ أن يصبح ميدان التحرير نقطة التركيز للاحتجاجات في 2011، التي استمرت لمدة 18 يومًا قبل أن يتنحى حسني مبارك، وللكثير من الأحداث التي تلتها. أصبح الميدان بمثابة "الكرة الثلجية" التي استقطبت المسيرات من مداخله السبعة خلال الثورة.
 

محاولة طمس الهوية الثورية لميدان التحرير
   
بعد انتفاضة 2011، سعت السلطات المصرية عمدًا إلى طمس الهوية الثورية لميدان التحرير، كجزء من جهود أوسع لقمع الذاكرة والرمزية لما حدث هناك.

تم هذا الطمس على ثلاثة مستويات: تغيير الصورة الذهنية للميدان، تعديل تدريجي في صورته المعمارية والبصرية، وأخيرًا، تحويل جذري في مساحته المادية لتتوافق مع السرد الإعلامي وبلاغات النظام الحاكم التي تعتبر ثورة 2011 "عملًا تدميريًا".
 

التغيير في الصورة الذهنية للميدان
   بدأت التغيرات الأولى في عهد المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبعد عدة أشهر من الانتفاضة. بعد الانقلاب على الرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي في 2013، تصاعدت الحملة لقمع الثوار عبر القيود الأمنية، والملاحقات القضائية، والقوانين التي قيدت الاحتجاجات. ورغم وجود مظاهرات رافضة للانقلاب العسكري، لم تصل إلى ميدان التحرير إلا بعد ثلاثة أشهر.

عندما وصل حوالي مائة متظاهر إلى الميدان في 1 أكتوبر 2013، وهم يهتفون ضد الحكم العسكري، أصبح هذا الحدث مادة إخبارية، تبعها تشديد الإجراءات الأمنية لإغلاق الميدان. تم مواجهة محاولة احتجاج آخر بعد ثلاثة أيام بإطلاق النار والذخيرة الحية وقنابل الغاز، ما أسفر عن وقوع إصابات واعتقال العشرات بتهمة محاولة "التسلل إلى ميدان عام".

تحول الميدان إلى ثكنة عسكرية مليئة بالمئات من الدبابات والمركبات المدرعة من وزارتي الدفاع والداخلية، متفوقًا حتى على عسكرة الميدان في عهد المجلس العسكري. 
 

التحولات البصرية والمعمارية للميدان
   في 2013، أعد وزير التنمية المحلية قانونًا جديدًا لتجريم أي كتابة على الممتلكات العامة أو الخاصة، يُعاقب عليه بالسجن لمدة تصل إلى أربع سنوات وغرامة قدرها 100 ألف جنيه مصري، حوالي 10 آلاف جنيه إسترليني حسب سعر الصرف آنذاك.

هذه الخطوة تبعت قانون الاحتجاجات، الذي حظر فعليًا التظاهرات في الشوارع، واعتقال فناني الشوارع بسبب الكتابة ضد الجيش.

في 2015، تم هدم جدار مملوك للجامعة الأمريكية في القاهرة على شارع محمد محمود، الذي كان يعد أحد أشهر الأماكن للفن الجرافيتي في المدينة. أعلنت الجامعة أنها تعتزم عرض الأعمال الفنية في معرض دائم، إلا أن المبنى "لم يعد مناسبًا للاستخدام" بسبب الأضرار التي لحقت به في أحداث 2011. ومع مرور الوقت، تحول المبنى إلى حديقة.
 

التحول الجذري لميدان التحرير
   أدخلت التغييرات المعمارية الكبيرة التي جرت في الميدان أبعادًا أكبر للمسح الكامل للروابط الثورية. في مايو 2015، تم هدم مبنى الحزب الوطني الديمقراطي، المقر السابق لحزب الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي كان يقع بين النيل وميدان التحرير.

منذ 2019، نُفذ مدعوم بملايين الدولارات لإعادة تطوير منطقة القاهرة التاريخية، بما في ذلك ميدان التحرير. في العام الماضي، أعلن صندوق مصر السيادي أنه في المراحل النهائية من خطة التطوير لتحويل ميدان التحرير إلى "متحف في الهواء الطلق".

ترافق ذلك مع نقل آثار فرعونية كبيرة إلى الميدان، بما في ذلك مسلة من صان الحجر في الشرقية وأربعة تماثيل من معبد الكرنك في الأقصر. وقد أثار ذلك اعتراضات من علماء الآثار الذين حذروا من الأضرار المحتملة للآثار خلال عملية النقل.
 

تراجع الرمزية الثورية
   إلى جانب هذا التغيير المعماري، أصبحت ميدان التحرير مركزًا للزوار والسياح، مع فقدان الروابط السياسية والاجتماعية المرتبطة به. وأصبح الميدان محاطًا بأجهزة أمنية مكثفة وأصبح الوصول إليه يتطلب المرور عبر بوابات أمنية مع تفتيش صارم.

ورغم هذه التغييرات الجذرية في الميدان، يبقى في الذاكرة الجماعية للمصريين رمزية الثورة. كان ذلك جليًا في أكتوبر 2023، عندما تجمهر الآلاف في الميدان بعد اختراق الحواجز الأمنية للاحتجاج على حرب إسرائيل ضد غزة.

للعديد من النشطاء المصريين، كانت تلك لحظة انتصار: إحياء ذكرى الثورة، حتى وإن لم يعد الميدان يمثل المكان المادي الذي جسد آمالهم.

_____________________________________________________

-العربي الجديد