يشكّل صعود اليمين الأوروبي تغيّراً ملحوظاً في سياسات أوروبا الداخلية والخارجية، خصوصاً في قضايا تمسّ الأمن الأوروبي والحدود، وبالتأكيد السياسة الخارجية، ليبقى السؤال: هل يمكن لهذا أن يقود إلى تغيّر في سياسات أوروبا الخارجية تجاه الصراع والقضية الفلسطينية؟... ليس ثابتاً أن ثمّة تغيّراتٍ جوهريةً تجاه الصراع، لكن الخشية تظلّ قائمةً مع صعود ترامب والعلاقة الدافئة والمتكاملة معه في توجّهاته الخارجية، وربّما تأثر (أو تبنّي) أقطاب اليمين الأوروبي بهذه التوجّهات في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، كذلك إن حالة المزاج العام تجاه الصراع (طغت في السنوات الماضية) ستجد أثرها في دفع اليمين الاتحاد الأوروبي إلى التخلّي عن سياساته القديمة تجاه الصراع أو التخفيف ممّا يُعتَبر "توجّهاً" قريباً من المواقف العربية.
وكما يُلاحَظ، يواصل اليمين الأوروبي صعوده في أوروبا بشكل لافت، خصوصاً بعد أن حقّق نتائج قوية في انتخابات البرلمان الأوروبي في الصيف الماضي، ما شكلّ انعطافةً مهمّةً في تاريخ السياسة الأوروبية الداخلية تحديداً، وبعد ذلك الخارجية أيضاً.
كان آخر ملامح هذا الصعود النتائج المُرضية التي حقّقها حزب "البديل من أجل ألمانيا"، في انتخابات البلاد البرلمانية الشهر الماضي (فبراير).
وبشكل عامّ، ثمّة توجّهٌ متصاعدٌ لحضور اليمين الأوروبي في أروقة السياسة الأوروبية، خصوصاً أن بعض الذين باتوا يشكّلون الحكومات في العواصم الأوروبية جاؤوا من أحزابٍ كانت تعتبر قبل سنوات قليلة ممنوعةً أو محظورةً بسبب التقارب بين مواقفها ومواقف الأحزاب المتطرّفة التي اندثرت بعد الحرب العالمية الثانية.
ويلاحظ المتابع للسياسة الأوروبية التوتّرات التي أحدثها صعود أجنحةٍ أكثر تطرّفاً في داخل اليمين، حتى بات هناك شيءٌ يمكن تسميته "يميناً متطرّفاً"، يقع اليمين الكلاسيكي في يساره، بجانب أحزاب الوسط واليسار، فصعود اليمين الأوروبي بدا مبكّراً في القارّة العجوز، ولكن ما يشار إليه هنا صعود اليمين المتطرّف، الذي يأتي من قواعد فكرية وأيديولوجية تفترق مع اليمين الكلاسيكي في نواحٍ كثيرة، قد يعتبر أوّلها نظرته للدولة الوطنية ولوظائفها، الأمر الذي أوجد الحاجة لإعلان الحرب على مؤسّسات بروكسل الوحدوية، والعمل على تقويضها، وفي جزءٍ أساسٍ من هذه الحرب ثمّة الحرب على السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، والعمل لوقف هذه السياسة أو تحويلها عملاً فنّياً أو استشارياً، وترك السياسة الخارجية مهمّةً أساسيةً لكلّ دولة عضو. وجوهر ذلك (بالطبع) سعي اليمين المتطرّف لتأكيد الهُويَّة الوطنية لدوله وسيادتها. مثلاً، عبّر قادة اليمين في اجتماعهم في مدريد الشهر الماضي (فبراير/ شباط) عن قلقهم من طبيعة المؤسّسة الأوروبية "المتحجّرة"، مندّدين بتنامي الهجرة غير الشرعية، وانعدام الأمن، ضمن أشياء أخرى.
انتهى "عصر النخب"، الذي تقوده بروكسل، كما قال بيانهم. وفيما يمكن ملاحظة اختلافاتٍ كثيرة بين قوى اليمين المتطرّف في أوروبا، وربّما أيضاً تصادمها في المستقبل حول مصالح دولها، إلا أن ثمّة تطويراً واضحاً لمقارباتٍ مختلفة حول بعض القضايا، خصوصاً الهجرة والبيئة والهُويَّة والسيادة. وفي هذه الحالة، يدور الحديث عن الهُويَّة والسيادة الأوروبية، بينما عميقاً، تعني توجّهات كلّ حزب هُويَّةَ دولته وسيادتها، الأمر الذي سيُحدِث صراعاً في المستقبل سيكون تجنّبه صعباً.
تشبه هذه الأيام وضع أوروبا في عشرينيّات القرن الماضي، أي قبل قرن، حين هيمنت الفِكَر المتطرّفة، والحديث عن العرق، أساسان للهُويَّة، على السياسة الأوروبية، وهي الفِكَر نفسها التي جعلت هتلر يلتقي مع موسوليني مثلاً، رغم أن كلّاً منهما رأى "سموَّ" عرقه وهُويَّته الوطنية. ومع ذلك، كانت النتيجة تمزّق أوروبا.
المقلق، إلى جانب أشياء كثيرة، العلاقة "الروحانية" بين يمين أوروبا المتطرّف والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي وصفه الاجتماع الأوروبي بأنه "قدوة تُحتذَى".
ورحّب ترامب بقوّة اليمين الأوروبي، الذي يعتبره امتداداً طبيعياً لعالمٍ يرغب في قيادته.
ثمّة توافق واضح بين الطرفَين في القضية الأساسية، التي تشغل بال اليمين الأوروبي، التي تعكس التطرّف القومي لهذا اليمين والمتمثّلة بالهجرة، وأيضاً في قضايا المناخ، وهما القضيتَان اللتان أعلن الرئيس الأميركي ترامب الحرب عليهما.
وفيما يصعب القول بوجود توافق كبير بين الطرفَين، إلّا أن الإشادات المتبادلة بينهما تعكس التقارب "المُقلِق" بالنسبة إلينا في ما يتعلّق بمواقف اليمين الأوروبي المتحملة من القضية الفلسطينية.
هناك كثيرون من القادة الأوروبيين، الذين تربطهم علاقات عميقة وشخصية بترامب، ربّما أبرزهم رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، ورئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني.
يؤمن رئيس الوزراء المجري، الذي يُعدّ من أبرز قادة اليمين الأوروبي، بشكل مطلق بقدرة ترامب على فرض السلام، خصوصاً في أوكرانيا، بل إنّه، فور فوز ترامب، أطلق تصريحاتٍ أثارت قلق نظرائه الأوروبيين بشأن السلام مع روسيا، كذلك فإنه يشاطر ترامب الرأي بخصوص المحكمة الجنائية الدولية، وكان قد تحدّاها وأرسل دعوةً إلى نتنياهو لزيارة المجر، ورفض توقيع البيان الأوروبي المشترك لدعم المحكمة.
ومن غير تسرّع، لا بدّ من توقّع انزياحات تدريجية في مواقف أوروبا، يصح أن نقول إنها محايدة، إن لم تكن عكسيةً، لن تصل إلى حدّ تنصّل مؤسّسات بروكسل ودولها من مواقفها الثابتة تجاه الصراع، ولكنّها ستعكس تحوّلات الموقف الدولي، الذي لم يعُد يرى أن الحلّ الوحيد للصراع يكمن في حلّ الدولتَين.
الانطباع الخاطئ (لكنّه السائد) أن أوروبا مع الفلسطينيين وواشنطن مع الإسرائيليين. قد لا يغدو هذا مريحاً لأقطاب اليمين، الذين يرون في هيمنة بروكسل سبباً في تغيّراتٍ كثيرة في المواقف الأوروبية.
وبالتالي، كفُّ يد بروكسل عن سياسات الدول الأعضاء سيعطيها حرّيةً بالعودة إلى مواقفَ تناسب المزاج العام للأحزاب الحاكمة.
من جهة أخرى، من المهم فهم هذا التحوّل العامّ لفهم طبيعية ما يجري في أروقة صنع القرار الدولي تجاه الصراع بعد تعطّل حلّ الدولتَين، وانعدام وحدانية وجود مشكلة فلسطينية واحدة، بل هناك مشكلات للفلسطينيين يجب إيجاد حلٍّ لكلّ واحدةٍ وفق طبيعتها، واحدة في غزّة بحاجة إلى حلّ يختلف عن الحلّ الذي تقتضيه طبيعة المشكلة في الضفة الغربية مثلاً.
سيضع ترامب حلّ الدولتَين في ملفّات الماضي، وسيستبدله بصفقات تخفّف من التوتّر وتوقف الصراع، واليمين الأوروبي يشاطره من حيث المبدأ الفكرة العامّة من دون أن يتوافق معه في التفاصيل، مثلما هو الحال بشأن روسيا.
علينا أن ننتبه إلى أن ثمّة تحوّلات جوهرية في نظرة العالم تجاه الصراع، تتمثّل في الأساس بعدم مركزية القضية الفلسطينية في صراع إسرائيل مع محيطها.
هذه حقيقة مؤلمة، ولكن يمكن رؤية الأمر هكذا. لم تعد القضية الفلسطينية في قلب صراع إسرائيل مع الدول العربية، رغم أن الحاجة إلى حلّ هذه القضية تغدو مركزيةً إذا بُحِث في استقرار المنطقة وفي دمج إسرائيل اقتصادياً وسياسياً فيها، ومع ذلك يمكن تجاوز الأمر.
إلى جانب ذلك، واضحٌ أن حلّ الدولتَين، وفق "النموذج" القديم، لم يعد قائماً، إذ بات الحديث مرّة أخرى عن "تطلّعات" الفلسطينيين السياسية، التي أيضاً قد تعني شيئاً في غزّة، يختلف عمّا يعنيه في الضفة الغربية.
لاحظوا ترامب يتحدّث عن غزّة فقط، وسنجد أن أوروبا تدريجياً ستبدأ في التغاضي عن هذا أو عدم انتقاده، وستطوّر برامج تنموية خاصّة لغزّة، ربّما تحت إشراف السلطة في رام الله، ولكنها ستكون برامج خاصّة بغزّة. سيعمل اليمين المتطرّف في البرلمان الأوروبي، بوصفه كتلةً وازنةً لإحداث تغيّر "إجرائي" في تعامل (وعلاقة) الاتحاد مع الموضوع الفلسطيني فنّياً، بمعنى ما يتعلّق بالدعم المالي ومساراته، وهو تغيّرٌ سيعكس نفسه على فهم طبيعة حلّ الصراع، ومع تخفيف قبضة مؤسّسات بروكسل على السياسة الخارجية، قد نجد تراجعاً في مواقف بعض الدول تجاهنا. ومع مواصلة صعود اليمين، الذي سيجد نفسه في رئاسة الحكومات في بعض الدول الأخرى، وربّما في مواقع مستشارية ألمانية ورئاسة فرنسا، لا بدّ أن نتوقّع اقتراباً أكثر من مواقف ترامب، من دون التماهي معها، لاعتباراتٍ ذات علاقةٍ بناخبي الأحزاب.
ما أقترحه، أن التحوّلات التي مسّت مواقف أوروبا، منذ ما يُعرَف بـ"تقرير شومان" عام 1971، وبعد ذلك، مقرّرات قمة البندقية في 1980، وصولاً إلى إعلان برلين، الذي أشار للمرّة الأولى في 1999، إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد إنجازها وفق اتفاق مع إسرائيل ستتوقّف، ولن نشهد المزيد من التحوّلات والاقترابات من الموقف الفلسطيني.
قد لا تحدُث انتكاسات، ولكن لا مزيد من التقدّم، بل ستكون بعض المواقف الكلاسيكية موضع جدل ونقاش.
ويظلّ السؤال: هل سينجح اليمين الأوروبي في إنتاج مواقف جديدة لأوروبا تجاه الصراع، ودفعها تجاه تبنّي مواقفَ أقرب إلى الحياد التام؟ ... أيضاً سيبرز موضوع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بقوّة في السطح.
في دولة ليست عضواً في الإتحاد الأوروبي مثل سويسرا، سيصوّت المشرّعون في شهر مارس الجاري على وقف تمويل الوكالة بعد أن هيمن اليمين على الحكومة بواقع أربعة أصوات إلى ثلاثة. سويسرا، التي كانت من الدول الأوروبية القليلة التي لم تقاطع الحكومة الفلسطينية بعد فوز حركة حماس عام 2006، ها هي توقف تمويل "أونروا". وعليه، يشكّل صعود اليمين تهديداً حقيقياً للمواقف الأوروبية تجاه الصراع، التي باتت من مسلّمات السياسة الدولية.