يشهد البرلمان المصري منذ أيام مناقشات ساخنة لتعديلات قانون الإيجارات القديم، ما يأتي مصحوباً بجدلٍ كبيرٍ في الفضاء الإعلامي، بين مؤيّدي التعديلات المُقترَحَة ومعارضيها، وكانت المحكمة الدستوريّة العليا قد أصدرت حُكماً تاريخيّاً، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بعدم دستوريّة الفقرة الأولى من المادتَين الأولى والثانية، من القانون رقم 136 لسنة 1981 الخاصّ بتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجّر والمُستأجر.
وقالت المحكمة، في حيثيّات حُكمها التاريخي: إن ثبات القيمة الإيجاريّة عند لحظة من الزمان، ثباتاً لا يزايله مضي عقود على التاريخ الذي تحدّدت فيه "يُشكّل عدواناً على قيمة العدل، وإهداراً لحقّ الملكيّة"، وأوضحت المحكمة أن تطبيق أثر حُكمها، يبدأ من اليوم التالي لانتهاء دور الانعقاد التشريعي الحالي.

تتعيّن هنا العودة إلى السياق التاريخي، الذي أنتج ذلك القانون، فبعد انقلاب 23 يوليو (1952) على الحقبة الليبراليّة بالكامل، وليس على النظام المَلكي فحسب، وبعد تدشين المرحلة الشموليّة العسكريتاريّة، عقدت "دولة يوليو" اتفاقاً ضمنيّاً "غير مكتوب" مع المجتمع المصري، كان بمثابة العقد الاجتماعي الذي قامت على أساسه، وكان تحت عنوان "السياسة مقابل الخبز".

تبنّى عساكر 1952 الذين ينحدرون من أصول اجتماعيّة بسيطة ريفيّة شعاراتٍ مثل "القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال" و"إقامة عدالة اجتماعيّة"، تُرجمت لاحقاً إلى سياساتٍ تحدّثت عن "المجتمع الاشتراكي" القائم على تذويب الفوارق بين الطبقات، ومن ثَمّ قامت الفلسفة الناظمة للتشريعات المُنظّمة للعلاقات الاقتصاديّة - الاجتماعيّة التي أصدرتها دولة يوليو 1952، على أصول "اشتراكيّة"، اتخذّت طابعاً استرضائيّاً للفقراء، في حين كانت ذات نزعة عدائيّة تجاه الملكيّة الخاصّة بأشكالها كافة، التي استهدفتها الدولة اليوليويّة بترسانة من القوانين.

شرع النظام الجديد في معركة تكسير عظام متعدّدة الجولات، ضدّ الرأسماليّة الوطنيّة، بجناحَيها الزراعي والصناعي، ممثَّلة بطبقة الباشوات، قامت على تحطيم الكيان الاقتصادي الذي مثّل أساس النفوذ السياسي للبورجوازيّة الكبيرة، أو كبار المُلّاك في الريف والمدن على السواء، وكانت البداية مع صدور قانون الإصلاح الزراعي الذي مثّل ضربة موجعة لكبار المُلّاك، أجهزت على نفوذ البورجوازيّة الكبيرة في الريف، تبعها موجة واسعة من التأميمات، والمصادرات، وفرض الحراسات على المصانع، والشركات المملوكة لكبار رجال المال، والصناعة أجهزت على النفوذ السياسي للبورجوازيّة الكبيرة في المدن.

ثمّ توسّع مفهوم "الإقطاع" لدى النظام الجديد، فاتخذّ بعد ذلك طابعاً أمنيّاً، قام على رؤية مفادها بأن كلّ صاحب ملكيّة خاصّة يمثّل مصدر تهديد، باعتباره "مشروعاً إقطاعياً أو رأسمالياً" يتعيّن تجريده من ممتلكاته، فكانت المعركة مع البورجوازيّة المتوسّطة بموجة أخرى من فرض الحراسات على مشروعات صغيرة، وصلت إلى منشآت مثل مطاعم "غروبّي" و"الأمريكَين"، وطاولت سلسلةُ فرض الحراسات بعد عام 1961 محلّات حلويّات، وملابس، و"موبيليات"، وأحذية، وكانت تلك الموجة ذات نزعة انتقاميّة قامت على تصفية الحسابات، والتنكيل بشهادة الراحل الكبير ثروت عكاشة في "مُذكّراتي في السياسة والثقافة" عندما قال: "لا شكّ أن كلّ الثورات تقع في أخطاء ويسقط لها ضحايا، لكن الذي أعلمه يقيناً أن عدداً ممّن لا ضمير لهم قد اندسّوا بين أجهزة السُلطة العُليا والحراسات والأمن، وهو ما مكّنهم لا من خيانة فِكر الثورة الأساسي وطموحات وآمال من قاموا بها فحسب، بل كان في هذا وسيلتهم لشفاء غلّهم، وسبيلهم إلى ذلك التنكيل بأشقّاء لنا مواطنين، وهو جرح لم يندمل ولا يزال ينزف للأسف".

بعد ذلك، جاء الدور على العقارات المملوكة للبورجوازيّة الكبيرة في المدن، وعليه فقد صدرت قوانين عدّة متتابعة استهدفت تخفيض القيمة الإيجاريّة إلى أدنى حدٍّ، وتثبيتها، مع (تأبيد) عقد الإيجار بجعله يمتدّ من المستأجر الأصلي، إلى جيل الأبناء، ثمّ إلى جيل الأحفاد بالقيمة الإيجاريّة نفسها، في مهزلة تاريخيّة مكتملة الأركان نادرة المثال، جعلت من العقارات (أموال المُلّاك) إرثاً يُورَّث إلى المُستأجرين جيلاً بعد جيلٍ بعد جيلٍ، رغم أنوف أصحابها، في أسوأ صورة من صور التأميم، بموجبها حصل المستأجر على "دعم" مباشر من المالك عقوداً طويلة من دون أي تبعة على الدولة، فقد قام قانون الإيجار القديم على فلسفة إفقار المالك، وإثراء المستأجر من دون وجه حقّ، فقد جاء ذلك القانون مُفتقراً إلى أبسط قواعد التوازن، ومنحازاً بصورة كاملة للمستأجر، وجعل منه في موضع الطرف الأقوى، وجعل المالك الطرف الأضعف، وانطبق عليه اسم الفيلم "غريب في بيتي"، أو غير قادر على التصرّف في مِلكه، أو الانتفاع بنصف أو ربع قيمته السوقيّة.

أنتج ذلك القانون الجائر أوضاعاً بالغة الغرابة والشذوذ، وآثاراً سلبيّة عديدة بعد أقل من عقد، فقد كان سبباً أساسيّاً في ظهور أزمة الإسكان، كما عرف الفضاء المصري ظاهرة "الخلوات" ذات الأرقام الفلكيّة، بالتزامن مع انتشار ظاهرة الشقق المغلقة التي يحتفظ بها المستأجرون لإيجارها الزهيد، من أجل مساومة المالك على إعادتها، أو تأجيرها من الباطن.

المفارقة العجيبة أنه جرى تفكيك كلّ الإرث "الاشتراكي" القديم، خلال العقود الثلاثة الماضية بعدما تجاوزه العصر، حتى القانون القديم لإيجارات الأراضي الزراعيّة جرى تعديله في يونيو 1992، بيْد أن قانون العقارات ظلّ على حاله، حتى تحوّل إلى "لغم" تتجسّد فيه العشوائيّة التشريعيّة التي اتسمت بها دولة يوليو 1952، رغم أنّه صدر في ظروف استثنائيّة، بيْد أن ذلك الاستثناء أنشأ أوضاعاً اجتماعيّة جديدة ومنح مكاسب كبيرة لفئات مجتمعيّة لا تستحقّها، فكلّما أعلنت حكومات حسني مبارك نيّتها الاقتراب منه، سرعان ما كانت تتراجع تحت ضغوط المستفيدين، وكان بعضهم من كبار المسؤولين النافذين الذين يقطنون في أرقى الأحياء القاهريّة بقروش أو بضع جنيهات، وتتضرّر مصالحهم إذا ما جرى تعديله.

وجّهت المحكمة الدستوريّة العليا ضربة لذلك القانون،عندما قضت في عام 2002 باقتصار امتداد عقد الإيجار على جيل واحد فقط، ثمّ جاءت في نوفمبر الماضي ووجهّت له ضربة قاضية بُحكمها التاريخي، لتلقي الكرة في ملعب البرلمان، الذي يتعرّض لضغوط شديدة من لوبي المُنتفعين، لتفريغ القانون الجديد من مضمونه، والحفاظ على مكاسبهم التي يستحلّونها من دون مبرّر منطقي.

المفارقة الطريفة أنه قد تجد شقّتَين متجاورتَين، الأولى يدفع مستأجرها وفق القانون الجديد بضعة آلاف، في حين يدفع مستأجر الأخرى وفق القانون القديم بضعة جنيهات، في مشهد سريالي عجيب. والأدهى القفزات الرهيبة في قيمة الإيجارات الجديدة وامتداد تلك الظاهرة من العاصمة إلى الأقاليم، وصولاً إلى مدن الصعيد التي وصلت فيها الإيجارات إلى أرقام فلكيّة، مع غياب دور الدولة التي عليها أن تتدخّل لضبط السوق، عند درجة من التوازن بوضع حدّ أقصى للزيادة السنويّة في قيمة الإيجارات من جهة، وبالتوسّع في مشروعات الإسكان غير الهادفة للربح، والتخلّي عن السياسات النيوليبراليّة بمنافسة المُطوّرين العقاريين والمُضاربين في تسليع المسكن، فللدولة وظائف اجتماعيّة لا يمكنها التخلّي عنها.

مع احتدام الجدل في الفضاء المصري حول ذلك القانون يفرض السؤال نفسه: هل تكون هذه نهاية قانون الإيجار القديم، وعودة التوازن إلى المشهد العقاري؟ أم يجري الالتفاف على حُكم المحكمة الدستوريّة والرضوخ لضغوط المستفيدين المُستحلّين لأموال المُلّاك عقوداً طويلة؟ حتى ظنّ بعض المُستأجرين أنهم تملّكوا أموال المُلّاك، بطول أمد عقود الإيجار التي ورّثتهم ما ليس لهم (!).