حذر خبراء في المياه والاقتصاد من تصاعد أزمة خفية تهدد مستقبل الأمن المائي المصري، تتمثل في توسع الاستثمارات الزراعية الأجنبية بدول منابع النيل، والتي باتت تستهلك جزءًا متزايدًا من حصة مصر التاريخية في مياه النهر، في ظل غياب تنسيق إقليمي فعال وتعاظم تأثيرات التغير المناخي.

جاء ذلك خلال فعاليات مؤتمر "الاستثمار في أفريقيا: فرص ريادة الأعمال وتحديات المنافسة الدولية والإقليمية"، الذي نظمته كلية الدراسات الأفريقية العليا بجامعة القاهرة، بمشاركة نخبة من المسؤولين والأكاديميين والخبراء من 20 دولة، وتحت رعاية وزير التعليم العالي ومساعد رئيس الوزراء.

وأطلق الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الأراضي والمياه بكلية الزراعة في جامعة القاهرة، تحذيرًا شديد اللهجة، واصفًا ما يجري في دول منابع النيل بأنه "خطر صامت" يستنزف المورد الرئيسي للمياه في مصر، ويهدد قدرتها على تلبية احتياجاتها الزراعية والمعيشية في غضون سنوات قليلة.

وقال نور الدين إن بلدان مثل أوغندا، رواندا، وبوروندي، باتت وجهة مفضلة للاستثمارات الأجنبية في الزراعة المروية، خاصة من دول كبرى مثل الصين والهند، بالإضافة إلى استثمارات واسعة من دول الخليج.

وأوضح أن هذه الاستثمارات، التي تتوسع بمعدلات غير مسبوقة، تتجه نحو زراعة محاصيل تستهلك كميات ضخمة من المياه، ما يُفاقم من أزمة تقاسم مياه النيل، خاصة مع ضعف آليات الرقابة المشتركة على استخدام الموارد المائية العابرة للحدود.
وأضاف أن التغيرات المناخية وانخفاض انتظام الأمطار زادا من الاعتماد على نظم الري، وهو ما يزيد من الضغط على موارد النهر.

وأكد نور الدين أن الوضع مرشح لمزيد من التدهور إذا لم تتحرك مصر ودول الحوض نحو استراتيجية إقليمية منسقة تحكم الاستثمار في المناطق المائية الحساسة وتمنع الاستغلال العشوائي للمورد الوحيد الذي تعتمد عليه مصر في أكثر من 95% من احتياجاتها المائية.
 

القارة الجافة.. والاستثمارات المتعطشة
   رغم أن أفريقيا تمثل نحو 15% من سكان العالم، إلا أنها لا تحصل سوى على 9% فقط من الموارد المائية العالمية، بحسب ما أشار إليه نور الدين.
وتُعد شمال القارة -وفي القلب منها مصر- من أكثر المناطق جفافًا، بينما تحتفظ دول المنابع بنصيب الأسد من المياه، ما يجعلها هدفًا لموجة استثمارية تتسم أحيانًا بالطابع الاستعماري الجديد، وفق توصيفات أكاديميين بالمؤتمر.

المفارقة، كما بيّن نور الدين، أن هذه الاستثمارات لا تأخذ في الاعتبار حقوق دول المصب، بل تجري بمعزل عن أي التزامات بيئية أو سياسية، وهو ما يعكس قصورًا خطيرًا في الأطر القانونية الإقليمية لإدارة الموارد المشتركة، ويكشف في الوقت ذاته هشاشة موقع مصر في خريطة الاستثمار المائي للقارة.
 

الأمن والتنمية.. علاقة مشروطة
   وفي مداخلة لافتة، شدد اللواء محمد عبد الباسط، المدير العام لمركز مكافحة الإرهاب لتجمع دول الساحل والصحراء، على أن الاستثمار في أفريقيا لا يمكن فصله عن السياق الأمني.
وأوضح أن تصاعد نفوذ الجماعات المسلحة في عدد من دول القارة بات يشكل تهديدًا مباشرًا لمشروعات البنية التحتية والاستثمار الزراعي، وأن غياب الاستقرار الأمني يفرغ هذه الاستثمارات من مضمونها التنموي.

وأشار عبد الباسط إلى أن أفريقيا تخسر سنويًا نحو 195 مليار دولار نتيجة التدفقات المالية غير المشروعة والأنشطة غير القانونية، مؤكدًا أن الشباب -الذين يمثلون أكثر من نصف سكان القارة- يتحولون في كثير من الأحيان إلى "طاقة مهدورة" بسبب الفقر والبطالة والتهميش.
 

الفساد.. العائق الأكبر
   الفساد كان أيضًا محورًا بارزًا في جلسات المؤتمر، حيث كشف الباحث أحمد محمد الطماوي من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، عن دراسة قياسية تظهر أن ضعف الحوكمة والفساد المؤسسي يمثلان العائق الأكبر أمام تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى القارة.

وبيّن الطماوي أن هناك علاقة طردية بين مكافحة الفساد وزيادة الاستثمارات، مؤكدًا أن الشفافية والإصلاح المؤسسي يجب أن يكونا في قلب أي استراتيجية تنموية حقيقية، مشيرًا إلى أن كثيرًا من مشروعات التعاون الإقليمي، خصوصًا في مجالات الطاقة والمياه، تنهار بسبب غياب الثقة في بيئات الأعمال المحلية.
 

ممرات التنمية.. أداة سياسية واقتصادية
   في جانب آخر، طرح الدكتور سلطان فولي، أستاذ الجغرافيا الاقتصادية بجامعة القاهرة، رؤية شاملة لمفهوم "ممرات التنمية" باعتبارها أدوات استراتيجية للتكامل القاري.
وأكد أن البنية التحتية للنقل والطاقة والاتصالات يجب أن تُبنى على أسس العدالة الجغرافية والاجتماعية، داعيًا إلى تجنب التركز التنموي الذي يغذي التوترات والانقسامات داخل الدول.

وشدد فولي على أن هذه الممرات لا تخدم فقط التجارة، بل تُعيد تشكيل علاقات القوة داخل القارة، ويمكن أن تُمثل ورقة ضغط مهمة في مواجهة القوى الدولية المتنافسة على ثروات أفريقيا.
 

الطاقة الخضراء.. الفرصة المهدورة
   من جهتها، أكدت الدكتورة سالي فريد، رئيس قسم الاقتصاد بكلية الدراسات الأفريقية العليا، أن أفريقيا تمتلك فرصًا استثنائية في مجال الطاقة المتجددة، لكنها غير مستغلة بشكل كاف.
وبيّنت أن القارة يمكن أن تنتج بحلول 2030 نحو 310 غيغاواط من الكهرباء النظيفة، لكن التحديات التمويلية والتقنية تحول دون تحقيق ذلك.

ودعت فريد إلى بناء شراكات دولية لدعم التحول الأخضر في أفريقيا، خاصة في مجالات الوقود الحيوي والهيدروجين الأخضر، مؤكدة أن القارة -رغم مساهمتها المحدودة في الانبعاثات- يمكن أن تقدم نموذجًا عالميًا للتحول البيئي العادل والمربح في آن واحد.