يشكل ملف الأوقاف الإسلامية في مصر أحد الملفات الحساسة التي تعكس بوضوح طبيعة العلاقة بين السلطة الحاكمة منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، والمؤسسات الدينية، وعلى رأسها وزارة الأوقاف وهيئة الأوقاف المصرية.

ويكشف هذا الملف عن استغلال النظام الانقلابي للأوقاف ومقدراتها لخدمة أجندته السياسية والاقتصادية، مع تهميش دور الأوقاف الحقيقية في خدمة المجتمع الإسلامي وتعزيز القيم الدينية الحقة.

فوفقًا للبيانات الرسمية، فإن هيئة الأوقاف المصرية تدير آلاف الأملاك والأراضي التي تمثل ثروة كبيرة، ويجري حاليًا حصر شامل ومميكن لهذه الأملاك تمهيدًا لطرحها على القطاع الخاص للاستثمار، وفق توجيهات رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي في مايو 2025.

هذا التوجه يثير انتقادات المعارضة التي ترى في خصخصة أملاك الأوقاف تناقضًا مع طبيعة الوقف كأصل خيري لا يجوز بيعه أو التصرف فيه إلا وفق ضوابط شرعية صارمة، ويخشى من أن يؤدي ذلك إلى تحويل أموال الأوقاف إلى مشاريع تجارية تخدم مصالح النظام وأجهزته الأمنية، بدلاً من تحقيق الأهداف الدينية والاجتماعية التي أنشئت من أجلها.

 

تفريغ رسالة الأوقاف الإسلامية

في ظل تصاعد القبضة الأمنية والعسكرية على مؤسسات الدولة بعد انقلاب 3 يوليو 2013، يثير ملف الأوقاف الإسلامية في مصر تساؤلات واسعة حول كيفية استغلال أموال الوقف، ومدى التزام السلطة الحالية بالمقاصد الشرعية التي أُنشئت من أجلها هذه الأوقاف، خاصة في ضوء التصريحات الرسمية التي تتغنى بتحقيق "أرقام قياسية" في الإيرادات دون أن يواكبها أثر ملموس على تحسين أوضاع المواطنين أو دعم الاستقلال المالي للمؤسسات الدينية.

 

أرقام قياسية في الإيرادات.. لكن لمن؟

أعلنت هيئة الأوقاف المصرية بحكومة الانقلاب مؤخرًا عن إجمالي الإيرادات والأرباح والتي جاءت كالتالي:

• إجمالي الإيرادات خلال النصف الأول من العام المالي 2024/2025: 1.566 مليار جنيه مصري، بزيادة 30.54% عن نفس الفترة من العام السابق، وتجاوزت المستهدف بنسبة 127%، في مؤشر على توسع الدولة في السيطرة المالية على أصول الوقف.

• أعلى إيراد شهري في تاريخ الهيئة: مارس 2023، بقيمة 306.7 مليون جنيه، بزيادة 152.2% عن نفس الشهر في العام المالي 2020/2021، أي أكثر من 150% مقارنة بعام 2021.

• صافي الإيرادات والأرباح لعام 2022/2023: 2.285 مليار جنيه، مقارنة بـ602 مليون جنيه في 2013/2014، بزيادة 279.48%.

 

لكن من وجهة نظر مراقبين، فإن هذا "النجاح المالي" يأتي في سياق تحويل مؤسسة الوقف -التي كانت من المفترض أن تكون أداة لدعم الفقراء وتمكين المجتمعات- إلى ذراع مالية تتبع السلطة التنفيذية، تخضع لسيطرة الأجهزة الأمنية والتنفيذية، ولا تخضع لرقابة ديمقراطية أو شفافية حقيقية.

 

تهميش البعد الاجتماعي والديني للوقف

رغم أن الأوقاف شرعت أصلاً لخدمة الأيتام والفقراء وبناء المساجد والمدارس والمستشفيات، إلا أن المشروعات التي تم الإعلان عنها مؤخرًا تعكس تركيزًا على الجانب الربحي.

فقد أشارت وزارة الأوقاف بحكومة الانقلاب إلى أنها شيدت أكثر من 17 ألف وحدة سكنية بتكلفة تتجاوز 2 مليار جنيه، وخصصت أكثر من 15 مليارًا لتطوير المساجد، وهي أرقام تبدو ضخمة لكنها تثير علامات استفهام بشأن طبيعة الاستفادة المجتمعية، في ظل تفشي الفقر وارتفاع معدلات البطالة والانهيار المتواصل في الخدمات الصحية والتعليمية.

الأمر الأكثر إثارة للجدل هو أن هذه الإيرادات لا تعود بأي شكل من أشكال الاستقلالية على مؤسسات دينية أو تعليمية خارج هيمنة السلطة، بل يتم توظيفها سياسيًا لتعزيز الولاء، سواء من خلال توزيع لحوم الأضاحي بشكل موسمي (7,499 طنًا أو عبر دعم موجه لبعض الفئات، بما يشبه سياسات "الرضا الاجتماعي الوقتي" لا الحلول الجذرية.

 

هيمنة سلطة الانقلاب على الوقف

منذ الانقلاب، سارعت السلطة إلى سنّ قوانين جديدة تكرّس سطوتها على الأوقاف، أبرزها القانون رقم 209 لسنة 2020 الذي أعطى هيئة الأوقاف المصرية، التابعة لوزير الأوقاف المعين سياسيًا، صلاحيات واسعة في إدارة واستثمار أموال الوقف.

ويرى مراقبون أن هذه التشريعات لم تُوضع لحماية الوقف، بل لتأميمه سياسيًا واقتصاديًا، وسحب أي استقلال محتمل قد تتمتع به المؤسسة الدينية.

هذا ما يفسر ارتفاع إيرادات الهيئة بشكل غير مسبوق في عهد السيسي، دون أن يصاحبه شفافية في النفقات أو رقابة برلمانية حقيقية في ظل برلمان مغلق سياسيًا.

 

الأوقاف.. أداة قمع ناعمة؟

وفقًا لبيانات وزارة الأوقاف، فإن المحافظات ذات الأداء الأعلى في الإيرادات شملت البحر الأحمر (544% من المستهدف)، الأقصر (186%)، والقليوبية (185%). لكن هذه الأرقام، بدل أن تعكس نجاحًا في خدمة المجتمع، تثير تساؤلات حول جدوى هذه الأرباح، في وقت تعاني فيه نفس المحافظات من تدهور الخدمات العامة، ونقص الإنفاق على التعليم والصحة.

يذهب محللون إلى أن النظام الحالي يستخدم الأوقاف كأداة "قمع ناعمة"، حيث يتم تطويع الخطاب الديني عبر توجيه الأئمة وتحديد الخطب، ومنع أي نشاط ديني خارج عن الخط الرسمي، بالتوازي مع السيطرة على عوائد الوقف واستثمارها وفقًا لرؤية النظام لا وفقًا للمقاصد الشرعية أو الاحتياجات الشعبية.

 

أين الشفافية؟

في ظل غياب إعلام حرّ وبرلمان فعلي، تبقى التفاصيل الدقيقة حول حجم أموال الوقف الحقيقي، ونوع الاستثمارات، والعقود التي تُبرم مع شركات خاصة، طي الكتمان.

وتخشى الاقتصاديون أن يتم استغلال هذه الأموال في دعم مشاريع مقربة من السلطة، أو لتبييض صورة النظام أمام الرأي العام، خاصة مع إطلاق مشروعات مثل "أطلس الوقف" الذي رُوّج له باعتباره توثيقًا لـ92 مجلدًا من ممتلكات الوقف، لكن لم يتضح حتى الآن أين ذهبت عوائدها الحقيقية.

 

خاتمة

في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الأوقاف الإسلامية في مصر مؤسسة مستقلة عن السلطة، تخدم المواطن وتدعم العدالة الاجتماعية، باتت -في ظل النظام الحالي- واحدة من أدوات السيطرة والتحكم، تُستخدم لتعزيز الهيمنة السياسية لا لتحقيق المقاصد الشرعية.

وبينما تحتفي الدولة بالأرقام والإيرادات، يتساءل كثيرون: أين الفقراء؟ وأين الشفافية؟ وأين دور الوقف في التغيير الحقيقي للمجتمع؟